نحن حقا لا نعرفهم وهم ليسوا منا
أبو القاسم وضعني أمام حقيقة أن أنصار الله والسيد عبد الملك الحوثي لم يعيدونا إلى زمن تقبيل الركب فقط وإنما إلى زمن أكثر نبلا وعزة، بتنا نقبل فيه الأرجل والأحذية دون أن نسأل صاحب الرجل والحذاء عن هويته واسمه وانتمائه الأسري أو المناطقي أو السياسي، قبلة لم يطلبها أحد، و لم تكن بقرار مسبق، و لم تكن تملقا و إنما امتنانا وفعلا عفويا لا إراديا، تجبلك عليه فطرتك السوية..
ابو القاسم شاب عشريني يلقب نفسه باسم المشرف الذي كان مسؤولا عنه قبل أن يستشهد في إحدى الجبهات ويوصي ابو القاسم بقيادة المجموعة خلفا له..
صعقني تماما هذا الشاب الوسيم جدا، الذي يخوض غمار السباق على الطرقات الوعرة مع صواريخ الطائرات الحربية والاستطلاعية بشكل شبه يومي، ويغامر في كل صباح بخوض هذا السباق وهو يعلم يقينا بأنه قد يكون آخر يوم له في مضمار السباق وفي حياته بأكملها.
المدد للجبهات هو ما لا يمكن أن يتوقف ليوم واحد إلا في حال كان الوصول الى المناطق التي يتواجد فيها المجاهدون مستحيلا وليس هناك طريق توصل المدد إليهم، وأبو القاسم وأمثاله هم المدد..
كان لي شرف التعرف على أبو القاسم الذي تعلو وجهه ابتسامة نجوم السينما و الإعلانات ، و كان ذلك في زيارتي لإحدى الجبهات على الحدود لزيارة المجاهدين بمناسبة العيد، كان أبو القاسم يقود الطقم المحمل بالمدد و عدد من الزائرين، و كان يخترق كالسهم الفضاء و يزمجر و يطلق صيحات شبيهة بأصوات الهنود الحمر التي يطلقونها و هم يخوضون معاركهم مع الغزاة الأوربيين لبلادهم في أميركا الشمالية، و على طقم آخر كنت أنا و رفاقي، نسابقه في قلب أحد الأودية الوعرة و الصحارى المفتوحة، كان يسبقنا حينا و كنا نسبقه حينا، و كلنا حماس أن لا يتمكن من الوصول إلى نقطة النهاية قبلنا، حتى أن حماسته أنستنا أن فوق رؤوسنا تحلق ” زنانات ” العدوان و طائراته الحربية التي تبحث عن من تقتله، و صلنا إلى النقطة الأخيرة و كنا نحن قد سبقنا أبو القاسم، و كنت مهتما جدا بانتظار وصوله للتعرف عليه و المفاخرة بانا سبقناه، و لكني عند وصوله تجمدت و لم أعد قادرا سوى على التحليق فيه و هو ينزل من مقعد السائق متكأ على عكازين و يرفع رجله و ساقه اليمنى التي يثبت عظامها مجموعة من المسامير المغروزة فيها من حد الرسغ إلى أسفل الركبه، و هذه الرجل هي ذاتها التي يعتمد عليها في دواستي البنزين و ” الكليش ” أو ناقل السرعة، بدت قدمه و ساقه متورمة و حجمها ضعفي حجم قدمه و ساقه السليمة، يتحرك بالعكاز بصعوبة و يتكأ عليهما، و هو فعلا لا يمكن أن يسير من دونها، و لكنه لا يعير ساقه المهشمة أي اهتمام عندما يتحرك في أداء واجبه الجهادي، الصدمة و الذهول لازمتني لأكثر من نصف ساعه وأنا اتأمل في ساقه و ابتسامته و حديثه البشوش و المفعم بالحوية معنا و مع رفاقه و باقي الزوار، في وقت كنت أتحسس فيه شيء من الألم في يدي و ركبتي و ظهري بسبب المطبات التي أثرت علي أنا و زملائي بفعل وعورة الطريق و سرعة حركتنا، كنت مرهق جدا و كان أبو القاسم و كأنه للتو أفاق من نوم عميق لساعات طويلة ، أتحسس ركبتي من ألم تافه، و يبتسم أبو القاسم بكل تلك الكسور و المسامير في رجله و كأنها مسامير في خشبة ملقية على الأرض و ليست ساقه.
عندما كان وقت الزيارة قد انتهى و كان لابد من المغادرة قبل حلول اليل و جدت نفسي – و من دون أن أشعر و من دون أن اسأله حتى عن اسمه و منطقته و طبيعة عمله و سبب إصابته – انحني إليه مقبلا قدمه ، و الله إني لم أشعر بسعادة على قبلة سبقتها في حياتي حتى التي وضعتها على الحجر الأسود كما شعرت بمثل سعادتي بهذه القبلة التي استفزته و صدمته ، فقلت له و الله ما جئنا إلا لننحني لكم و نقبل أقدامكم، و ما لدينا ما نقدمه لكم أو نتفضل به عليكم، فزيارتكم شرف منحتمونا إياه و تقبيل أحذيتكم منة لكم علينا و واوجب علينا لكم ،،
في اليوم التالي بعد أن أمضيت مع زملائي الزائرين ليلتنا مرابطين في أحد المواقع كان أبو القاسم قد عاد مجددا إلى الموقع الذي نحن فيه حاملا المدد لرفاقه، و كان لنا شرف العودة معه من الجبهة، و رددنا معه صهيله عندما كان يشق الصحراء و الوادي و سفح الجبل رافضا أن يتوقف للتمويه بفعل تحليق الطيران فوقنا، فهو يعتقد أن الطيران لن يصيبه إلا إذا توقف و هو يفضل خوض السباق مع الطائرة و الصاروخ على أن يتوقف فتصيبه صواريخ الطائرة مرة ثانية و يستشهد رفاق آخرون له كما حدث معه قبل قرابة العام ..
القصة الكاملة عن إصابته واسمه و هويته و منطقته و طبيعة عمله عرفناها عندما تناولنا طعام الغداء في منزله بعد أن أصر و بطريقة لا تترك لك فرصة للاعتذار عن تلبية عزومته لنا، حاولنا إقناعه بأن يتوقف عن العمل وأن يرتاح حتى يتماثل للشفاء، فرد مبتسما بأنه لا يشعر بالألم إلا إذا توقف و أن اصابته تتحسن أكثر عندما يكون في الجبهات مع الله، و قال ” لو تهدروا معي لما غدوه أني اوقف و ارتاح ما به فايده، و لو قلت لكم مرحبا، فما هو إلا مجبر، عتغالطكم به و ما أنا موقف، و العافية باتجي أسرع طالما أنا مع الله “.
في الجبهات تشعر أنك خرجت من كل هذا العالم إلى نقطة لم يسبق وأن سمعت عنها أو عن سكانها، وتكتشف قوما يحملون أخلاقا وروحية ربانية وانسانية، لا يكفي أن تقرأ عنها في القرءان أو في السير أو حتى في ملازم السيد حسين رضوان الله عليه، وكل خلق وسلوك يمكن أن يصف أهل الجبهات، لن تعرف معناه وكنهه مالم تكن قد زرتهم.
أبو القاسم نموذج لبقية المجاهدين، ويكبر قلبك وتتهلل اساريرك عندما تسمع من أبو القاسم، رواياته عن رفاقه الذي يقول إنه لا يعدل احدا منهم في التضحية والبذل والتوجه الى الله، وهو يبدو محقا في قوله وأيضا متواضعا ومنكرا لذاته، وهذا هو حال وخلق كل المجاهدين في الجبهات، المعزولة عن اهتماماتنا وفهمنا، والبعيدة عن رداءة واقعنا وكل العالم.