موسكو وأنقرة وحافة الهاوية
مع سقوط أول دفعة من الضحايا الروس في الحرب السورية، خسرت موسكو نقطة ذات ارتدادات معنوية كبيرة، حتى لو كانت حادثة أمس، منطقياً، من ضمن الاحتمالات التي درستها القيادة الروسية قبيل إطلاق عملياتها العسكرية في سوريا.
لم تكن أنقرة مسرورة بالدخول الروسي المباشر على خط الأزمة السورية بالتأكيد. فقد أجهضت موسكو بفعلها المباغت ما كان الأتراك يُعدّون له في شمال البلاد، الذي أصبح مع هذا الدخول مسرحاً للأعمال العسكرية المضادة لقوى المعارضة المسلحة، بعدما كان يُفترض به أن يكون منطلقاً لهذه القوى في اتجاه الساحل السوري والعاصمة، يلي الإجهاز على عاصمة الشمال حلب.
ولم يكن خافياً أن العمليات الجوية الروسية ستُحدث إرباكاً «تقنياً» في سماء تعجّ بالمقاتلات، خصوصاً أن الحدود السورية ـ التركية شهدت على مدار الأسابيع الماضية عدداً من «المماحكات» بين الجانبين.
كما ظهرت واضحةً استماتةُ أنقرة الدفاع عما لها من نفوذ على الأرض السورية، وهو أمرٌ دفعها إلى اختيار الأسلوب الذي سبق لموسكو أن اعتمدته في جورجيا وأوكرانيا حرفياً. إذ أكدت قبل أيام أنها «قلقة» من استهداف الغارات الروسية مواطنين سوريين من أصول تركمانية، معطية بذلك لنفسها حقاً يكادُ يكون سيادياً بالتدخل نصرةً لهم، تماماً كما فعلت موسكو في إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الجورجيّين العام 2008، وفي شرق أوكرانيا وشبه جزيرة القرم قبل عام.
غير أن تركيا لم تكتفِ بالتحرك الديبلوماسي ودعم الفصائل المسلّحة من الباطن كما كان منتظراً. بل بادرت إلى إسقاط أول طائرة «سوخوي» في خضم العاصفة التي أرادت موسكو أن تُتبعها بدفعات تدخلٍ بري مُقنّن. ولهذا معان بالغة الأهمية، يمكن إيجازُ أبرزها بما يلي، بانتظار اكتمال المشهد واتّضاح مزيد من المعطيات:
أولاً، بدا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هادئاً في تعليقه الأوّلي على الحادثة، كما هو متوقع. لكن كلامه يعني، بما لا يدع مجالاً للشك، أن بلاده ستردّ على أنقرة عبر طرق متعرّجة، بعضها أمني وبعضها الآخر عسكري وثالثها، بداهة، اقتصادي. إذ إن «طعنة الظهر» التي تحدث عنها من قبل «داعمي الإرهابيين»، ربطت تركيا عضوياً بالمعركة التي تخوضها موسكو دفاعاً عن أمنها القومي أولاً، ومجالها الحيوي ثانياً. وفيما سيأخذ الرد العسكري شكل مزيدٍ من استهداف الجماعات التي ترعاها أنقرة في الشمال السوري وانخراطٍ أكبر في الميدان، مع احتمال تقصّد إسقاط طائرة تركية بأسلوب مشابه أو عبر شبكة الصواريخ التي المضادة للطائرات الي لوّحت موسكو بإمكانية استخدامها، فإن الرد الأمني قد يتمثل بأساليب متعددة، بينها ما يتّصل بتوثيق التعاون مع «حزب العمال الكردستاني» لتسهيل خرقه الأمن التركي بشكل أكثر فاعلية. أما الرد الاقتصادي، فهو يعود بضرر بالغ على الجانبين، خصوصاً إذا ما وصل إلى حد تجميد خطة موسكو القاضية بنقل الغاز الروسي عبر تركيا إلى البلقان (بدلاً من أوكرانيا)، والتي أقرّتها العاصمتان قبل نحو عام.
ثانياً، تأتي الحادثة عقب اللقاء الذي جمع بوتين بقائد الثورة في الجمهورية الإسلامية في إيران السيد علي خامنئي، الذي قال فيه إن موسكو «لا تطعن حلفاءها من الخلف». والمقارنة بين تصريحي الرئيس الروسي حيال إيران أولاً، ثم تركيا بعدها بيوم، تحديداً لناحية اختيار التعبير ذاته معكوساً في الحالة التركية، لها دلالات رمزية. فهي تعني أن الاصطفافات عادت لتتّضح، والخيارات راحت تضيق على موسكو، برغم مروحة الاتصالات واللقاءات التي أجراها بوتين في محاولة منه لتأمين شيء من القبول الدولي بعمليته العسكرية. اليوم، يجد بوتين نفسه في مربع واحد مع إيران مجدداً بعدما حاول طرح نفسه كقادر على رعاية حلٍ في سوريا. وحده القلق الأوروبي من عمل إرهابي جديد ما زال يخلط الأوراق ويخرق الاصطفافات، ويلعب لمصلحة أنقرة تارة (حاجة أوروبا للتعاون معها في ملف اللاجئين)، وموسكو تارة أخرى (رغبتها في التكامل العسكري معها).
ثالثاً، أصبحت موسكو، برغم حاجتها إلى ردٍ معنوي، ملزمة بتفحّص موقف «الناتو» قبل أي خطوة تصعيدية، خصوصاً إذا ما أنتجت خطوة من هذا القبيل احتكاكاً مع الجانب التركي. فتركيا عضو في «حلف الأطلسي» وليست لاعباً منفرداً. وهي لا تخضع لتصنيف «الباحة الخلفية» لروسيا كدول الاتحاد السوفياتي السابق. كما أنها، لوجستياً، أي عسكرياً وأمنياً، بوابة العالم إلى الداخل السوري والمعبر الإلزامي لتصدير الأزمة السورية إلى العالم، تحديداً إلى دول «الناتو» الأوروبية. لذلك، فإن موسكو ستكون حذرة في ما يتعلق بشكل ردّها ومداه، حتى لو افترضنا أن القرار بردٍ كهذا قد اتخذ من حيث المبدأ.
رابعاً، تعني الاندفاعة التركية أن حكومة أنقرة راغبة بمتابعة البناء على ما بدأه حزب «العدالة والتنمية» الحاكم مؤخراً، تحديداً في حملته الانتخابية الأخيرة، لناحية شد عصب جمهوره وجذب المزيد من القوميين الأتراك إلى جانبه، خصوصاً أنصار «الحركة القومية»، علماً أن أردوغان يحتاج إلى هؤلاء للظفر بمعركة تعديل الدستور التي تزيد من سلطاته كرئيس للجمهورية، وتعطي بالتالي رصيداً أكبر لسياساته الخارجية. غير أن تحقيق ذلك يصطدم بالخلل الأمني الذي قد ينجم عن أي رد فعل – حتى لو كان محدوداً – تقوم به موسكو، مباشرة أو عبر طرف ثالث، على اعتبار أن الاستقرار هو أبرز العناوين التي أعانت «العدالة والتنمية» على الفوز بالسلطة في الانتخابات الأخيرة.
خامساً، يُنتظر أن تُعقّد الحادثة من عملية فرز الجماعات السورية المقاتلة وتحديد تلك المُصنفة في خانة الإرهاب مقابل تلك التي يمكن التعاون معها لإنتاج حل سياسي في سوريا. بعد أمس، ستكون موسكو أكثر تردّداً في إعطاء «صك براءة» للقوى التي تحظى برعاية تركية، حتى غير «الجهادية» (أو «نصف الجهادية») منها، فيما يُتوقّع أن تتشدّد تركيا في مطالبها لهذه الناحية، على اعتبار أن موسكو، من وجهة نظرها، تضرب خبط عشواء، من غير إيلاء ضرورات التسوية «المتوازنة» أهمية تُذكر.
القراءة الأولية لحادثة أمس تحتمل مزيداً من الاستطراد بلا شك، والأمر حتماً يفترض معاينة أكبر مع توالي تبعات الحادثة. على أن الأكيد حتى الآن أن ما حصل يضع الجانبين الروسي والتركي على حافة هاوية لا يريد أيٌ منهما أن ينزلق إليها، وتفترضُ أيُ مقاربةٍ واقعيةٍ للعلاقات الدولية عدم حصولها. لكن حافة الهاوية هذه تغوي بكثير من اللّكمات التي، وإن كانت لا تقضي على أي من اللاعبين، بمقدورها الإيذاء وتحقيقُ فوزٍ بالنقاط، وبالتالي تحديدُ الأحجام والأدوار، في الشرق الأوسط الجديد.
*ربيع بركات – السفير