فاجعة منى و”العقل البدوي”: إدارتنا للحج خط أحمر
“الإشراف على الحج إذا سلمنّاه للحكومة السعودية فينبغي أن تكون على قدر الثقة التي وضعتها الأمة في المشارق والمغارب عندهم… إنّا استأمناهم على أرواح أحبابنا الذين نرسلهم إلى هناك وتمنينا أن يؤدوا المناسك وأن يعودوا إلينا سالمين غانمين وإذا بهم يعودون موتى أكواماً أكواماً.”
الداعية المغربي عبدالله النهاري
22 يوماً مروا على فاجعة منى، من دون أن يُسمع عن نتائج تحقيقات كان قد تحدث عنها الملك السعودي بعد ساعات من وقوع الكارثة.
1690 شهيداً من 31 دولة، حصيلة كشفت عنها مؤخراً وكالة فرانس برس “لتكون (الفاجعة) بذلك أفدح كارثة في تاريخ مواسم الحج حديثاً”، وفق توصيف الوكالة.
بعد ساعات من وقوع الكارثة، خرج الملك السعودي سلمان بن عبدالعزيز على الشاشات متحدثاً عن فتح تحقيقات شاملة عن ما حصل. إلا أن الموقف السعودي الرسمي، الذي تبناه إعلام المملكة، كان قد خرج على لسان وزير الصحة السعودي خالد الفالح الذي حمل مسؤولية الفاجعة للحجاج الضحايا أنفسهم.
أيام قليلة، نشرت الصحف السعودية خبر شكر الملك السعودي لولي عهده محمد بن نايف، الذي رأِس اللجنة المسؤولة عن تنظيم الحج، على “نجاح” موسم الحج.
الخبر المستفز حظي باستهزاء واسع على “تويتر”، فكتب أحدهم: “الحمد لله على نجاح الموسم.. كلهم ألف قتيل وبتاع ألفين مصاب يعني”، وقال تعليق أخر “طيب أدفنوا اللي ماتوا الأول ولسة في أراضيكم بسبب الكارثة وبعدين هنوا بعض”.
الشكر الملكي والدعاية الاعلامية السعودية استدعيا تعليقاً من الداعية السعودي سلمان العودة، الذي كان يؤدي مناسك الحج: “القضاء والقدر لا ينفي مسؤوليتنا خصوصاً في الأخطاء التي تتكرر فعلاً، لا يمكن تلافي الأخطاء ما دام فينا من يقول : مواسم ناجحة بكل المقاييس ويروّج لذلك في وسائل الاعلام المختلفة…. لا يمكن لأي طرف اعلامي أو غير إعلامي صغير أو كبير أن يحمل الضحايا المسؤولية وأن ينجو بنفسه”.
مقابل العودة، خرج داعية سعودي آخر، وهو محمد العريفي، مدافعاً عن المملكة التي صمت أمراؤها. العريفي انبرى للدفاع عن النظام والتخفيف من وطاة الفاجعة. وفي مقابلته مع قناة ” المجد ” السعودية، سأل العريفي: “أي حال أفضل من أن يموت (الإنسان) وهو مُحرٍم؟ وأي موضع أشرف من أن يموت في مكة ، وبعد يوم عرفة، يعني بعد أن أتم أركان الحج”، قائلاً: ما “حصل هو شرف”.
وتوقف العريفي عند نقطة وصفها بـ “المهمة” : “الجهد الذي يُبذل بالحج من الجهات الحكومية”. وقارن العريفي بين تنظيم الحج وتنظيم المهرجانات الكبرى والألعاب الأولمبية في دول أخرى، وقال: “هي في مدن متفرقة.. وهم يحددون المباريات والساعة كم مع علمه بعدد الجمهور… يستطيع ان يدرس دراسة تامة ومع ذلك يقع عندهم موت واختناقات ومضاربات بعد هزيمة الفريق.ولله الحمد طوال هذه السنوات، لم نسمع أن أحد من حجاجنا ضُرب ومات، لم نسمع بهذا أبداً ولم يقع… العمل والخدمات التي تُقدم، عمل جبار!”
على مدى الأيام القليلة الماضية، نشرت وكالة الصحافة الفرنسية أرقام متقاربة لضحايا الفاجعة منى، لتستقر الحصيلة النهائية –حتى اليوم – عند 1690 شهيداً. وكتبت فرانس برس: “منذ الحصيلة التي أعلنتها السلطات السعودية في 26 ايلول/سبتمبر، بعد يومين من المأساة، والتي أكدت استشهاد 769 شخصا على الاقل، لم تصدر الرياض أي حصيلة أو أرقام أخرى لعدد الضحايا والمصابين والمفقودين”.
“ولكن بالمقارنة مع الحصيلة الرسمية السعودية، فإن الحصيلة التي جُمعت استنادا إلى الأرقام التي أعلنتها الدول التي فقدت مواطنين لها في الكارثة تشكل ضعف ما أعلنته الحكومة السعودية”، وفقاً للوكالة.
علماً أن عشرات الضحايا لاسيما الآسيويين تم دفنهم في مقابر جماعية في مكة وبطريقة غير شرعية، دون ان تعلم عنهم دولهم، وفق ما نقل المغرد السعودي “جمال بن”.
لماذا تمعن السعودية في تجاهل الفاجعة والتكتم عن أسبابها؟
في تقرير له، ذكر موقع ” فرانس 24″ أن وزارة الحج السعودية رفضت الحديث عن موضوع الحادث، وأحالته إلى وزارة الصحة التي أكدت أنها ترفض فتح الباب أمام التعاون مع دول أخرى من أجل إنهاء الأزمة التي خلفتها الكارثة مؤكدين أن موضوع إدارة الحج “له حساسيته الخاصة”… يعني أنه خط أحمر!
في مقال له بعنون “بنية العقل البدوي وأغلال القبيلة” يتحدث الكاتب السعودي خالد السيف عما يمكن من فهم تركيبة عقل آل سعود، القبيلة المستأثرة بحكم بلاد نجد والحجاز.
يقول السيف: “العقل البدوي قد تخلق… داخل فضاء نسق هيمنة شغل إقصائي، وجبروت فعل تسلطي، وإغراق في أحادية الرؤية للأشياء من حوله… فالنمط المعاش للبدوي هو من يسأل عن «بناء العقل» الذي تخلص من تبعة «التفكير» وأحالها إلى «شيخ القبيلة» إذ هو من يفكر بالإنابة عن الجميع ويقرر تالياً حتى بمصائر الأفراد في أخص أمورهم!!”
“…و«العقل البدوي» شأنه كبقية العقول من حيث جيناته الخلقية غير أنه قد تمرغ في وحل التسلطية «للعقل الشيخي» بحسبان السيادة ظلت مطلقة لـ«شيخ القبيلة»…” يتابع السيف.
كلام خالد السيف، الذي نشرته صحيفة الشرق السعودية، قد يقدم تفسيراً لتجاهل أمراء بلاد الحرمين إزهاق أرواح أبناء الأمة الاسلامية. التسلط والاقصاء، وأحادية الرؤية المتحكم في عقلية القبيلة الحاكمة للسعودية، أحالها إلى تقرير مصائر الأمة بعدما نصبّت نفسها “شيخ قبيلة” على العالم الاسلامي، يكفّر ويبرئ من يشاء، ويشيطن ويشرعن ما يستنسبه من وقائع وسياسات. وفق منظور شيخ القبيلة لا ضير في تدخل عسكري أميركي يبدأ من باكستان مروراً بالعراق، ويستبيح سماء سورية، وتستقر قواعده في أراضي “جزيرة العرب”، إلا أن المنظور نفسه يشيطن أي دعم إيراني لحركات مقاومة وجدت نفسها وحيدة بلا شيخ قبيلتها تواجه محتل.
العقلية البدوية المتحكمة بمصائر الأفراد تفسر كيف للمملكة أن تتجاهل دماء مئات المسلمين، مقابل أن لا يُنتزع منها أي امتياز.
الملك السعودي، شيخ القبيلة نفسه، الذي نسف إطلالته الأولى بعد ساعات من الفاجعة، بوصفه موسم الحج بالناجح، خرج له موقف يتيم مؤخراً، لم يطل فيه على مجريات التحقيق أو التعويضات لذوي الشهداء، موقف وحيد أراد الملك التأكيد عليه بأن نظامه لن يتخلى عن تنظيم الحج قائلاً: “لن تؤثر البيانات غير المسؤولة الهادف إلى استغلال الحادث لأغراض سياسية على دور السعودية وواجباتها ومسؤوليتها في خدمة ضيوف الله”.
ولعل واجبات مسؤوليات السعودية لا يشملها البُعد الانساني. تفهم السعودية واجباتها من زاوية واحدة وهي مليارات الدولارات التي تنفقها على مشروعات توسعة الحرمين في مكة والمدينة، والتي لم تنجح في التقليل من الحوادث المتكررة، لكنها تمكنت من تحقيق هدف واحد ألا وهو محو كل التراث التاريخي للمدينتين المقدستين، بما ينسجم مع المعتقدات الوهابية.
الأخطر من التجاهل السعودي، هو ما تضمنه تقرير نشره موقع “بي بي سي” محاولاً تفسير الصمت السعودي بالقول: “أياً كانت النتائج التي ستخرج بها التحقيقات، سيكون هناك شكوك في تورط أحد المقربين من العائلة المالكة أو النخبة السياسية”.
كلام “بي بي سي” يحيلنا إلى ما نشره مغردون سعوديون بعد وقوع الفاجعة عن منع نشر ما سجلته كاميرات التصوير والتي تخضع لمراقبة مباشرة من قبل الأجهزة السعودية المسؤولة عن التنظيم. وينقل “مجتهد” : “بعض المسؤولين صار يصيح باللاسلكي محذراً ولا من مجيب “…
إذاً الفاجعة وقعت تحت مرأى المولجين أمن وسلامة الحجاج، هؤلاء لم يحركوا ساكناً رغم الاستغاثات المستمرة لساعات!