الديموقراطية الاميركية ’أحقر شكل للحكم في العالم’
يبدو أن الشعب الأميركي بات مدركًا أن العملية الانتخابية في بلاده يمكن وضعها تحت أي تسمية عدا الديموقراطية. الواقع أنه من بين 34 دولة في العالم تعتمد الديموقراطية، تقع الولايات المتحدة في الترتيب الـ 31 في نسب التصويت. وتعتبر انتخابات التجديد النصفي عام 2014 أسوأها، إذ بلغت نسبة المواطنين الذين يحق لهم التصويت قانونيًا 36%. عام 2016 خرج دونالد ترامب وهيلاري كلينتون منتصرين بعد معركة طويلة من الانتخابات التمهيدية، بأصوات 9% فقط من عامة الشعب الأميركي بحسب صحيفة نيويورك تايمز، فيما امتنعت الغالبية الباقية ممن يحق لهم التصويت عن هذا “الحق الديموقراطي”.
هذه المعدلات قريبة جدا من النسب التي سُجلت قبل الثورة الجاكسونية عام 1828، والتي ألغت ربط حق التصويت بحجم الملكية، والذكورية، والدين المسيحي. ما يزيد الوضع سوءًا هذا العام أن المحكمة العليا ألغت قبل ثلاث سنوات قانونًا يحمي حق التصويت للأميركيين من أصول افريقية، الأمر الذي سمح ل 15 ولاية بوضع قوانين جديدة، تجعل تصويت هؤلاء أكثر صعوبة.
إلى ذلك يحصل في أرض “الأحلام” أن يفوز بمنصب الرئاسة من لا يفوز بأغلبية الأصوات الشعبية. بل يمكن أن يقف من حصد الأغلبية (آل غور2000 وساندرز 2016) على هامش الانتخابات.
معهد برينستون للأبحاث كشف عن دراسة قام بها في العام الماضي، توصلت إلى أن الموقف العام ليس له أي تأثير على سياسة الحكومة، بينما تتطابق اهتمامات النخب الاقتصادية مع الحكومات.
ولكن، هل يفسد ما سبق النوايا الأصلية للآباء المؤسسين للدستور الأميركي؟
الواقع أنه ليس في الوثائق الأميركية الثلاث الأهم: وثيقة الاستقلال 1776 والدستور الاميركي 1888 وقانون الحقوق، أي ذكر للديموقراطية، بل إن الآباء المؤسسين هاجموها وأقصوها.
جون آدامز أول نائب رئيس في الولايات المتحدة وثاني الرؤساء، يرى أن الديموقراطية “تنتحر نفسها إذا استمرت”. يعرّفها الرئيس المؤسس الثالث توماس جيفيرسون بأنها ” استعراضٌ للاضطرابات والخلافات، ولا تتطابق مع الأمن الشخصي وحق الملكية”. فيما يؤكد الرئيس الرابع جايمس ماديسون أن الديموقراطية “هي أحقر شكل للحكم في العالم”.
كان ماديسون صريحًا عندما أكد على ضرورة انشاء نظام يضمن “حماية الأقلية الغنية في مواجهة الأكثرية”. فيما تساءل جون آدمز: “كيف نحكم الشعب بالديموقراطية؟ لدينا مليون مالك و9 ملايين من غير الملاك، وأول ما سيحدث أنهم سيلغون الديون ثم يعيدون توزيع الأراضي”. وغيرها من التدوينات في الأوراق الفيديرالية والتي تفسر تحكم النخب الاقتصادية بالانتخابات الرئاسية والحكومات في الولايات المتحدة منذ تأسيسها، إذ الدستور الأميركي هو أقدم دستور في العالم يجري تطبيقه اليوم.
على هذه الخلفية تأسست الديموقراطية الأميركية، وما انفكّ أصحاب رؤوس الاموال والنخب الاقتصادية يعملون على تفصيلها وتصديرها وعولمتها حتى اليوم. والديموقراطية الأميركية هذه، تراها مطاطة، إذ تفصّل الإنسانية وحقوق الشعوب والأمن القومي للولايات المتحدة على قياس المصالح الأميركية. يهندسها الرؤساء المتعاقبون، ديموقراطيين كانوا أو جمهوريين.
وفي آخر إرهاصات هذه الديموقراطية، مرشحَان رئاسيان يدركان جيدًا أن الشعب الأميركي فقد الثقة بالتغيير، بعدما أحبطه عدم تنفيذ الوعود. إذ يتعاقب عليهم الرؤساء ولا يغيرون لهم شيئًا في السياسات الداخلية والخارجية. فعمد كلاهما إلى شخصنة المشاكل حيث لم يعد مثيرًا انتقاد برامجهما أو برامج أحزابهما. فتحوّلت الانتخابات الرئاسية إلى مسلسل درامي، وصرنا والشعب الأميركي ننتظر شتيمة ترامب اليوم وكيف ترد كلينتون غدًا.
أحد فصول هذا المسلسل فصل التحرش الجنسي والخطاب العنصري ضد النساء. يبدو أنه لا يخرج عن كونه خطابًا سائدًا حتى بين النساء المؤيدات. ميلانيا زوجة ترامب خرجت للعلن وأكدت أن هذا حديث الاولاد مع بعضهم بعضا. الأمر الذي يلفت النظر إلى أن العقود الطويلة من ممارسة “الديموقراطية” لم تخفف من حدّة الخطاب الذكوري في الولايات المتحدة. هناك نكتة متداولة في البلاد تحكي أن الامريكيين مستعدون للتصويت لافريقي أمريكي وليس لامرأة. مفاهيم مترسخة يمكن ان تكون قد حلت في بعض المجتمعات ولكن ليست في الولايات المتحدة. وقد يكون سبب النسب المتقاربة في الأصوات بين ترامب العنصري وكلينتون الأكثر انفتاحًا بأن الأخيرة سيدة.
تقول المرشحة الأكثر حظًا هيلاري كلينتون لصحيفة التايم : “يجب أن نعيد بناء الديموقراطية سوية”. حسنًا، لكن عن أي ديموقراطية تتحدث كلينتون، هل هي الديموقراطية التي انتهت بالبلاد الى مرشح عنصريّ يحظى بـ 45% من أصوات المندوبين داخل حزبه، أم أنها الديموقرطية التي فتتت يوغوسلافيا الى 8 دول، ودمرت العراق، وتدمر اليوم سوريا، وتبيد وتجوّع الشعب اليمني، بحجة الانسانية ومساعدة الشعوب على تحصيل الحرية!؟
بل هي الديموقراطية التي تعطي الشعوب الانطباع بأن هناك حرية سياسية كي لا ينتبهوا لعدم وجود حرية اقتصادية تحت ظل منظمة التجارة العالمية، وهيمنة البنك وصندوق النقد الدوليين والشركات المتعدية الجنسية. انها الديموقراطية التي شهدناها فيما سمي بالربيع العربي، التي تحثّ الشعوب على اسقاط الأنظمة لتهيئتها للاستعمار.