التدخل الروسي يعمق ازمات تركيا ومملكة آل سعود
تركيا: خيبة اردوغان في الانتخابات الاخيرة كشفت نزعته الانتقامية تجاه المسبب الرئيسي وهو حزب الشعوب الديموقراطي الكردي الذي استطاع لم شمل الاصوات الكردية بسرعة قياسية، الامر الذي دفع بحزب العدالة والتنمية ذو التوجه الاسلامي للسعي الى التحالف مع الحزب القومي العنصري وتلك مفارقة غريبة تشير الى حجم الأزمة التي تضرب المبادىء التي قام عليها حزب العدالة والتنمية.
وعلى إثر الهجمات على مواطنين اكراد وعلى مقرات حزب الشعوب الديموقراطي وجه زعيم الحزب صلاح الدين دمرتاش اصابع الاتهام الى السلطات التركية “خلال اليومين الأخيرين كان هناك أكثر من 400 هجوم ضد حزب الشعوب الديمقراطي والأكراد إننا نتعرض لحملة من التعديات والهجمات”، واضاف “ان الهجمات هذه تديرها يد واحدة هي يد الدولة، إنهم يريدون إشعال حرب أهلية”.
من جهته، ردا على تصريحات دمرتاش، اتهم أردوغان حزب الشعوب الديمقراطي بالتحدث بلغة الإرهاب، ودعا قادة الحزب الى الاختيار بين الديموقراطية والارهاب. وكان قد سبق لاردوغان ان اتهم حزب الشعوب الديموقراطي بإقامة صلات مع “جماعات إرهابية”.
الى جانب المواجهات مع حزب العمال الكردستاني، تواجه تركيا مزيج من المشاكل الداخلية الخطيرة التي يمكن أن تقود الى حالة من الفوضى: تحويل تركيا الى جسر لعبور الارهابيين الى سوريا وعدم الاستقرار السياسي والامني وتراجع ملحوظ في النمو الاقتصادي والاستقطاب السياسي واسلوب اردوغان الفج في التعاطي مع الخصوم والمنافسين. صحيح انه تجاوز أزمة “تقسيم” إلا انه اليوم اضعف من ان يتحمل صدمات متعددة يمكن ان تقود الى حرب اهلية.
متاعب تركيا تزداد نتيجة لتراكم اخطاء كانت تركيا بغنى عنها لولا النزعة التسلطية التي يتمتع بها اردوغان. ارتكب خطأ استراتيجياً عندما قرر العبث بخطوط الجغرافيا. بعد سقوط إدلب بيد القوى الارهابية، جيش التوحيد الاوزبكي وجيش المهاجرين والانصار الطاجيكي وكتيبة الامام البخاري الشيشانية وجيش الفتح الاخواني وجبهة النصرة القاعدية …. الخ، بدعم عسكري مباشر من تركيا، ظن اردوغان ان تحويل شمال سوريا الى منطقة عازلة تحت مُسمى “منطقة آمنة” بات امر واقع يُرضِخ قرار اوباما الرافض للعبث بخطوط الجغرافيا لخطورتها. فهم الروسي والايراني ان تركيا تجاوزت الخطوط الحمراء وعليهم التحرك للحد من طموحات اردوغان، من هنا قرر الحلفاء تغيير قواعد الحرب على الارهاب وبدأوا الاستعداد لحرب شاملة على الارهاب التكفيري يبدأ ولا ينتهي في سوريا. وعلى الارجح ان اردوغان فهم الرسائل الاولية فتراجع عن تعنته المتعلق بشخص الرئيس بشار الاسد “الأسد قد يكون جزءاً من الحل”، ثم عاد الى تعنته السابق لاسباب غير مفهومة.
التفجيرات الاخيرة التي استهدفت مسيرة سلمية لحزب الشعوب الديموقراطي ادت الى قتل واصابة المئات. من غير الدخول بالاتهامات والاتهامات المتبادلة، تركيا تتجه نحو الفوضى العارمة.
* * * * * * * * *
مملكة آل سعود: في خطوة غير محسوبة للضغط على روسيا وايران، لعبت السعودية باسعار النفط حتى انخفض سعر البرميل الى اقل من 50 دولار. في شهر مايو الماضي توقع صندوق النقد الدولي ان يصل العجز السعودي الى 14.5%، لكن بعد بضعة اشهر اصدر صندوق النقد الدولي تقرير يشير الى ان العجز ارتفع الى 20%، الامر الذي دفع المملكة الى البدء بسحب الاصول الخارجية. يقول المراقبون ان التراجع الحاد في اسعار النفط وتكاليف الحرب على اليمن وتمويل الارهاب التكفيري كلها مؤشرات قوية على بداية انهيار اقتصادي.
عندما كانت الجمهورية الاسلامية تفاوض الدول الست الكبرى – الند للند – وتفرض على العالم التسليم بحقوقها المشروعة امتلاك التكنولوجيا النووية للاغراض السلمية كانت المملكة العربية السعودية تمد يدها “لاسرائيل” وتقدم للكيان الصهيوني “الإغراءات” وتمشي بعكس الرغبة الدولية ظناً ان إدارة اوباما ستخضع وترتكب مغامرة ترقى الى مستوى الحماقة. فبدل ان تراجع مملكة آل سعود حساباتها وتبحث عن امكانية التوافق مع القرار الدولي والتعاون مع ايران لإيجاد آلية تعيد الاستقرار الى المنطقة، قررت التصعيد ضد جارتها الجنوبية بوحشية ليست غريبة على همجية النهج الوهابي.
وعندما كانت الدول المعادية لمحور المقاومة تراجع حساباتها وتبحث عن مخارج سياسية للازمة السورية وكيفية التعاطي مع الارهاب التكفيري اعلن النظام الوهابي على لسان وزير الخارجية عادل الجبير رفضه لكل الحلول السياسية، خيَّر الرئيس الاسد بين الرحيل والحرب.
لحد الان الغباء السياسي في الرياض سيد الموقف. يبدو ان العقل الوهابي عاجز على فهم ان التراجع الامريكي في النفوذ يخلق فراغاً لا يمكن لدولة فاشلة ان تملأه، وعاجز على فهم ان المتغيرات التي يسعى محور المقاومة وروسيا الى رسم حدودها تطال “الفضاء الاستراتيجي” من وسط اسيا الى القوقاز الى شرق البحر المتوسط، والعين مفتوحة على خليج عدن وممر باب المندب. الغباء وصل الى مديح ومغازلة المجرم نتنياهو على لسان انور عشقي المقرب من بلاط آل سعود ظناً ان الحل لازماتهم في “تل ابيب”.
الاهم، منذ احتلال آل سعود لدولة البحرين، ارتفعت اصوات اكاديميين واستراتيجيين وسياسيين تقول بأن السعودية تشكل عبئاً استراتيجياً واخلاقياً على الغرب.
* * * * * * * * *
كان لا بد ان تتدخل روسيا مهما لذلك من تداعيات ومخاطر، لان مخاطر عدم التدخل اسوأ من مخاطر التدخل.
بالتفاهم مع ايران ورفع مستوى التعاون الى شراكة استراتيجية، جاءت الحرب الروسية على الإرهاب في مرحلة مفصلية لتقلب قواعد المواجهة في كل ابعادها الجيوستراتيجية. الاسبوع الماضي، على إثر الاختراق غير المقصود للطائرات الروسية للمجال الجوي التركي مرتين اعتذرت روسيا، لكن المرة الثالثة ثبت الطيار الروسي الرادار لمدة اربع دقائق ونصف الدقيقة. من المعروف ان هكذا خطوة تعني تحديد الهدف والاستعداد لضربه. المؤكد ان روسيا لا تريد حرباً مع تركيا انما توجه رسالة تقول “ممنوع اقامة منطقة حظر جوي شمال سوريا وان المجال الجوي السوري تحت حماية القوة الجوفضائية الروسية”. كانت رسالة جدية وواضحة وغير قابلة للتأويل. حتى لو سلمنا جدلاً ان الولايات المتحدة مارست مع تركيا نوعاً من المجاملة في موضوع منطقة حظر جوي، لن يمر المشروع في مجلس الامن. اما الحديث عن امكانية اجتياح بري تركي لشمال سوريا يحمل عواقب لا يمكن لتركيا تحمله. يجب القول ان مشروع اردوغان ضم جزء من شمال سوريا بات من التاريخ واي مغامرة ستكون عواقبها وخيمة على وحدة الاراضي التركية.
هنا بدت خيارات اردوغان بين التقدم الروسي والتراجع الامريكي محدودة. العقلانية تقول ان اردوغان لا يملك سوى مخاطبة الروس بلسانين، لسان الصديق الحريص على المصالح المشتركة ولسان العضو في حلف الناتو، لكنه في النهاية سيخضع لقرار الناتو الذي يشكل له السلم للنزول عن الشجرة لا سيما مواقف حلف شمال الاطلسي الذي يضم دولاً مؤثرة على مستوى القرار ترى ان الانخراط الروسي المباشر له تداعيات ايجابية. اما السعودية فانها تواجه أزمة اكثر تعقيداً لأنها في موقع المهزوم لا سيما ان التدخل الروسي جاء على قاعدة “ليس هناك ارهابي جيد/معتدل وارهابي سىء/متطرف” ـ يجب القضاء عليهم حتى لا تصبح معادلة “ارهابي جيد وارهابي سيء” اداة دائمة في يد الغرب لإزالة انظمة سيادية او في يد السعودية ودول خليجية اخرى لإثارة الفتن الطائفية والمذهبية. الجدل الذي يقوده زبيغنيو بريجنسكي حول حماية ما اسماه “الاصول الامريكية” قضية خاسرة. حتى الرأي العام الامريكي غير مستعد ان يتقبل معادلة “ارهابي جيد وارهابي سيء” لانها معادلة غبية.
لم تكن هناك ضرورة لاطلاق صواريخ كروز متوسطة المدى من بحر قزوين إلا إذا كانت تحمل رسائل في اكثر من اتجاه. بما ان الصاروخ شبيه بصاروخ توما هوك الامريكي لم يعد هذا النوع من الصواريخ حِكراً على الولايات المتحدة، وان روسيا وحلفائها مستعدون للمواجهة مهما ارتفع مستوى المواجهة، وإذا كان هناك من يشكك بجدية روسيا وحلفائها حسم الحرب على الارهاب هو واهم. من هنا يمكن تفسير هرولة ولي ولي العهد محمد بن سلمان الى موسكو لانه وباقي الصبية فهموا ان الرسالة “المحمولة صاروخياً” على متن صواريخ كروز موجهة للسعودية بالتحديد.
اليوم غير الامس وغداً غير اليوم. المواقف تتبدل والانخراط الروسي يكسب المزيد من المؤيدين. الولايات المتحدة بعد اعترافها بفشل حربها على الارهاب باتت عرضة للاستهزاء على التواصل الاجتماعي، تسعى اليوم الى التوصل الى تنسيق كامل مع التحرك الروسي لاسباب تتجاوز الوقوع في خطأ. ما يجري في الكواليس شيء والخطابات العلنية شيء اخر. التحول الامريكي بدأ بالمطالبة بتعاون روسيا وايران ثم تبعه التسليم بضم “جبهة النصرة” الى “داعش” كهدف للضربات الجوية، واليوم يسعى الطرفان الى توافق على آلية تُبعِد شبح المواجهة بين القوتين. لعله اعتراف امريكي بأن الحرب الشاملة على الارهاب في سوريا تُسَرِّع من التوصل الى الحل السياسي بالشروط الروسية وبالترتيب 1- القضاء على الارهاب، 2- مصالحة وطنية، 3- التوصل الى حل سياسي.
• رضا حرب – المركز الدولي للدراسات الامنية والجيوسياسية