بدء العملية البرية الكبرى: من البحر إلى النهر
بعد نحو أسبوع على انطلاق الغارات الجوية الروسية فوق سوريا، انطلقت أمس العملية العسكرية البرية الأوسع شمالاً. وتولّت وحدات كبيرة من الجيش السوري خوض مواجهات في ريف حماه، مكّنها من استعادة السيطرة على نحو سبعين كيلومتراً، ضمنها عدد من البلدات الكبيرة. بينما يتوقع أن تستكمل العمليات اليوم، في خطة تهدف في المرحلة الأولى منها إلى تحقيق سيطرة كبيرة في منطقتي ريف حماه وسهل الغاب، إذ يجري العمل بقوة على تحضير محاور إضافية تستهدف كل مناطق الشمال.
وشرح قائد معنيّ لـ«الأخبار» ما يجري بالقول، إنّ القيادة الروسية أبلغت حليفيها الإيراني والسوري، قرارها المضي في عملية كبيرة وشاملة، تحت اسم «من البحر إلى النهر» وهي تستهدف مساعدة الحكومة السورية على إعادة بسط سيطرتها على كامل المنطقة الممتدة من ساحل اللاذقية إلى ضفاف نهر الفرات على الحدود مع العراق. وقال القائد العامل ميدانياً، إنّ الاستراتيجية الروسية واضحة تماماً، حتى خصوم موسكو بدأوا يفهمون الأمر، وهي تستهدف بصورة عملية، لا شكلية، استعادة سيطرة الحكومة السورية على كامل الحدود مع تركيا والعراق، وإن مجريات المعركة معقدة وكبيرة. ودعا القائد إلى عدم استسهال هذه الجولة، مشدداً على أنهم غير معنيين بتحديد سقف زمني أو جغرافي للعمليات.
وأشار القائد إلى أنّ موسكو بَنَت، وفق هذه الاستراتيجية، منظومة عسكرية خاصة في سوريا، وأنّ الجسر الجوي يعمل دون توقف منذ أسابيع. وقد وصلت إلى سوريا أسلحة وقوات روسية من مختلف الاختصاصات، من الطائرات الحربية المقاتلة إلى القاذفات إلى وحدات مدرعة مع أحدث الدبابات، ومنظمومة صواريخ موجهة، بينها صواريخ بعيدة المدة، وطائرات مروحية قتالية، وأسلحة مدفعية جديدة، مع طواقم فنية تقود أكبر عملية رصد وتعقب تقني. وأضاف أنّ هذه الوحدات رافقها كل ما تحتاجه من تجهيزات لوجستية وفريق بشري لخدمتها، وهي تنتشر وفق خريطة خاصة بها، وتتخذ إجراءات حماية خاصة، بعدما وفّرت لها السلطات السورية جميع الخدمات التي تحتاجها.
على الصعيد الاستخباراتي، كشف القائد الميداني لـ«الأخبار» أنّ غرفة التنسيق المعلوماتية العاملة الآن، تضمّ ضباطاً من الاستخبارات العسكرية الروسية والإيرانية والسورية، إضافة إلى فريق من الاستخبارات التابعة لحزب الله. وقد أُعدَّ بنك أهداف يشمل كل مناطق الشمال دون استثناء، ويجري العمل على تحديثه لحظة بلحظة. ولفت إلى أن القيادة العسكرية الروسية الموجودة في سوريا، تتلقى الأهداف المقترحة من الجانب السوري، وتعمل على توثيقها واستطلاعها ومتابعتها مع وزارة الدفاع في موسكو، حيث يُصدَّق على الأهداف المختارة للقصف، ثم تنطلق الطائرات في رحلة تنفيذ الغارات. كذلك يجري التركيز الآن على كل مقار القيادة ومراكز التحكم وإدارة القوات من جانب المسلحين، إضافة إلى قواعد التدريب والحشد ومخازن الأسلحة على أنواعها. ويؤكد المصدر أن إصابات كبيرة جداً لحقت بالمسلحين، ما دفع الجانب التركي إلى التحرك سريعاً للمساعدة.
ويقول القائد الميداني إنّ قرار إطلاق العملية البرية جاء بعد تنفيذ الغارات الأساسية، وإنّ الجانب الروسي أبلغ من خلال التواصل المباشر، أو من خلال الأمر الواقع، كل الأطراف الغربية والإقليمية، ولا سيما الأتراك، أنه ماضٍ في خطته دون توقف، وأنّ سلاح الجو لن يطلب الإذن من أي جهة للقيام بكل طلعات ضرورية، سواء أكانت هجومية أم دفاعية. وشرح المصدر خلفية قرار موسكو توجيه ضربات صاروخية بعيدة المدى كالتي حصلت أمس بالقول: «إن موسكو تريد أن تحسم لحلفائها جديتها المطلقة، وتريد إبلاغ الآخرين أنها ذاهبة إلى النهاية، وأن الهدف من القصف هو رسم حدود المساحة التي تستهدف روسيا مساعدة الحكومة السورية على استعادة السيطرة عليها».
وبحسب القائد، فإن القيادة الروسية وافقت على نشر مجموعة من الضباط الروس على الأرض، للعمل إلى جانب القوات السورية، ولتوفير عمليات التنسيق بين مختلف الأسلحة المشاركة في المعركة، حيث يتوقع أن ينضم الطيران المروحي الروسي الهجومي خلال الساعات المقبلة إلى المعركة أيضاً، وهو ما يتكل عليه لتوجيه ضربات إلى تجمعات أو عمليات الحشد والانتقال لمجموعات المسلحين في مناطق المواجهات.
أما بشأن العمليات الأرضية، فشدّد المصدر على أنه يجري حشد عدد كبير جداً من الجنود السوريين ضمن تشكيلات تعمل على خطة مدروسة، بالإضافة إلى عشرات من ضباط حزب الله ومقاتليه من الاختصاصات المناسبة للمعركة. ووصف المصدر الحديث عن وجود قوات إيرانية كبيرة بأنه كلام مبالغ فيه، مشدداً على أن عملية مراجعة مكثفة جرت، مكّنت الجميع من التعامل مع الأمر بطريقة مختلفة عن السابق، وستُستثمَر الحالة المعنوية العالية للجيش السوري وحلفائه في سياق تحقيق نجاحات كبيرة على الأرض. المسلحون وتركيا
في المقابل، لجأ المسلحون إلى تغييرات كبيرة على صعيد التشكيلات القيادية وغرف العمليات والتكتيكات. وحافظ هؤلاء على وجودهم وانتشارهم في عدد غير قليل من النقاط، وإن جرى العمل على تعديلات في آلية الانتشار. وقد لوحظ إخراج المسلحين لأسلحة نوعية من مخازن حديثة، تظهر أن دعماً بأسلحة أميركية قد وصل سريعاً، وهو الأمر الذي تكشفه تطورات موقف الحكومة التركية التي باشرت العمل ميدانياً بطريقة مختلفة، وسط ارتباك وتوتر كبيرين.
التوتر أدى عملياً إلى سحب غالبية المستشارين الأتراك من النقاط الأمامية باتجاه العمق القريب من الحدود التركية. كذلك جرى توفير ممرات لعمليات نقل كثيفة لمئات العائلات التي طلب المسلحون منها مغادرة مناطق عدة بعدما وصلتهم تحذيرات رسمية روسية من ضرورة إخلاء مناطق واسعة في إدلب وريفها، وخصوصاً جسر الشغور وجبل الزاوية من المدنيين. وهو تحذير تلقاه الجانب التركي أيضاً، وأثّر في معنويات المجموعات الباقية من «الجيش الحر» وبعض المجموعات من أصول تركمانية.
لكن تركيا، بعدما تشددت سابقاً في عمليات انتقال مسلحين أجانب إلى هذه المنطقة، سمحت خلال الساعات الـ 72 الماضية، بانتقال نحو 700 مقاتل من المجموعات الشيشانية والقوقازية، بينهم ضباط كبار ومقاتلون مخضرمون، ونُشروا في مناطق التماس المتوقعة مع الهجوم البري. ويعيش هؤلاء حالة استنفار قصوى، مترافقة مع حصولهم على أسلحة تركية نوعية، خصوصاً المضادة للدروع، وهم يقودون عمليات تعبئة في صفوف المجموعات «القاعدية» الحليفة لهم، تحت عنوان مواجهة الروس، وذلك في مواجهة الحالة النفسية التي تراجعت بقوة عند أغلب قيادات المسلحين بسبب الضربات الروسية من جهة، والشعور بأنهم تُركوا لمصيرهم من قبل الدول الداعمة لهم، بحسب حوار رصد بين قائدين بارزين من المسلحين.
كذلك، وافق الجانب التركي على طلبات المجموعات المسلحة، وساعدها في نقل عدد غير قليل من مخازن الأسلحة وبعض الآليات إلى مواقع جديدة قريبة من الحدود التركية، ربطاً بتقدير تركي، أن الطيران الروسي لن يستهدف نقاطاً حدودية. وهو أمر حاول الجانب التركي الحصول على تأكيد روسي رسمي بشأنه، لكن لم يحظ بجواب.
وتشير التقديرات إلى أن الحشد التركي في مواجهة العملية البرية، يقوم أساساً على نحو 2500 من المقاتلين المنتمين إلى «جبهة النصرة» وفصائل تتصل بالقاعدة وأحرار الشام، بالإضافة إلى نحو ألف مسلح كُلفوا مهمات لوجستية.
بوتين: دعم العمليات البرية
بدوره، رأى الرئيس فلاديمير بوتين أنّ ما أُنجز حتى الآن في الضربات الجوية «عالياً، إلا أنّ من السابق تلخيص النتائج العملية». وشكر بوتين الطيارين العاملين في سوريا، و«بحارة أسطول بحر قزوين الذين ضربوا مواقع داعش على مسافة قرابة 1500 كلم».
ودعا الأميركيين إلى «تسليم إحداثيات الأهداف (نقاط داعش) التي رصدوها منذ عام، حتى نضربها»، فهم «يزعمون أنهم يعرفون الوضع بصورة أفضل». وأكّد أهمية «التنسيق بين الطيران الروسي والجيش السوري»، لأن ذلك «سيدعم العمليات الهجومية للجيش السوري بصورة فعالة».
هجوم أمس
الهجوم الذي انطلق أمس، يهدف في المرحلة الأولى إلى فصل ريف إدلب الجنوبي عن ريف حماه الشمالي، ليشكّل منطقة آمنة تنهي أي طموح للفصائل المسلحة بأيّ تقدم جديد في حماه، وليكون قاعدة ارتكاز في عمليات نحو ريف إدلب وباتجاه سهل الغاب.
العملية بدأت من محاور عدة في الريفين الشمالي الغربي والشمالي الشرقي. واحد شرقاً، باتجاه قرية عطشان ومعان وآخر غرباً باتجاه كفرنبودة والمغير والهبيط (ريف إدلب الجنوبي)، ومحور ثالث غرب وجنوب غرب مدينة مورك (يسيطر عليها الجيش) باتجاه لحايا ومعركبة ولطمين. معظم هذه القرى استهدفها سلاح الجو الروسي بغارات دقيقة منذ ليل أول من أمس، ليتواصل الغطاء الجوي، بالتعاون مع سلاح الجو السوري، لعناصر المشاة المتقدمين. وسريعاً تمكّن الجيش من إحراز تقدم على أطراف لطمين، ثم سيطر مساءً على قريتي معركبة وعطشان وتليّ سكيك والحوير، وسيطر بعدها على قرية المغير شرق قلعة المضيق وتل الصخر شمال شرق المغير وتل عثمان غرب كفرنبودة ونقاط أخرى. وبحسب معلومات عسكرية رسمية، فإن إنجاز أمس بلغت مساحته 70 كيلومتراً. وهذه المساحة خسرها «جيش الفتح عندما سيطرت وحدات الجيش على مساحة تبلغ نحو خمسين كيلومتراً على محور مورك، وعشرين كيلومتراً على محور قلعة المضيق في المنطقة ذاتها بعد اشتباكات عنيفة مع المجموعات المسلحة استخدمت فيها مختلف أنواع الأسلحة، إضافة إلى سلاح الطيران».