التاريخ يعيد نفسه
الساعة الواحدة ليلا، يوم الأحد 17 حزيران 1979
اتصل اللواء حكمت الشهابي (رئيس أركان الجيش السوري) بالرئيس حافظ الأسد (الذي كان موجوداً وقتها في بغداد) ليخبره بنبإ أليم: «لقد وقعت مجزرة بشعة وغادرة في مدرسة المدفعية في حلب، راح ضحيتها مئات من الطلاب الضباط العزل». وأردف رئيس الأركان السوري قائلا بصوت مجروح: «المجرمون فرزوا الطلاب بشكل طائفي حقير، وانتقوا الشباب العلويين، وأعدموهم بدم بارد».. ثم زفر الشهابي بمرارة، وأضاف: «كان ذنب الشهداء أنهم علويون!».. ظل حافظ الأسد صامتا لبرهة من الوقت، ثم سأل مخاطبه بصوت جاف: «من الذين قاموا بالجريمة؟!».. وجاءه الجواب قاطعا: «ضابط خائن في مدرسة المدفعية، اسمه إبراهيم يوسف. واشترك معه مجرمون من تنظيم الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين».
الساعة السابعة والنصف، مساء السبت 16 حزيران 1979
امتلأت قاعة الندوة في مدرسة المدفعية في حلب، بقرابة 300 طالب. اجتمعوا بناء على أمر من الضابط المناوب تلك الليلة النقيب إبراهيم اليوسف، لأن إجتماعا شاملا مع مدير الكلية العسكرية سيتم في الصالة الرئيسية، وأنهم سيزودون هناك بتعليمات هامة. وفي القاعة المكتظة فوجئ الضباط الشبان الذين ارتدوا بزاتهم العسكرية الأنيقة، بمجموعة من الرجال الغرباء عن المدرسة يقتحمون المكان، ويغلقون الأبواب. كان هؤلاء يرتدون أزياء عسكرية، ويحملون رشاشات بأيديهم، فسرى بين الحاضرين جو من الشك والقلق.. هنالك برز النقيب إبراهيم اليوسف للطلبة، حاملا رشاشه أمام سبورة الصالة، وقرّب ميكرفونا إلى فمه، وبدأ يخطب خطبة مطولة مهاجما العلويين والنظام الأسدي، ومعلنا أن «كل طالب نصيري في هذه القاعة هو الآن في قبضة مجاهدي الطليعة المقاتلة». ثم أخرج إبراهيم اليوسف من جيبه ورقة حضّرها من قبل، وفيها قائمة أسماء محددة، وأعلن أن من سيُذكر إسمه فعليه أن يغادر القاعة، لأننا لا نريد أن نمسّ إخواننا السنّة بأذى». وبالفعل انسحب، من قاعة الندوة، كثير من الطلبة الذين شملهم «العفو الطائفي».. إلاّ أنّ الضابطين محسن عامر ومحمد عدوية رفضا الخروج من المكان، على الرغم من إذاعة اسميهما، وفضّلا أن يستشهدا مع رفاق السلاح.
كان المسلحون في داخل القاعة أحد عشر فردا، وهم: حسني عابو (قائد تنظيم الطليعة المقاتلة في حلب)، وعدنان عقلة (نائب عابو)، وزهير قلوطة، ورامز عيسى، وأيمن الخطيب، ومصطفى قصار، وماهر عطار، وعادل دلال (من أعضاء الجماعة المسلحة) إضافة إلى النقيب إبراهيم يوسف، والطالبان في المدرسة يحيى كامل النجار، وماني محمود الخلف. وبدا لبعض الطلبة، وقد رأوا الشرّ في وجوه المسلحين، أنّ خيراََ لهم أن يقاوموا تلك العصابة المسلحة القليلة، ولو بسواعدهم العزلاء، من أن ينتظروا الموت غيلة وغدرا. وبالفعل أقدم الطالب الضابط سليمان رشيد اسماعيل على مهاجمة أحد المسلحين، محاولا افتكاك بندقيته منه، ولكن المحاولة الجريئة سرعان ما أودت بحياة صاحبها. وحين أخذ الطلاب في الهياج، وبدا أن الزمام سيُفلت من بين أيدي المسلحين، أمسك إبراهيم اليوسف رشاشه الحربي، وأخذ يطلق النار بغزارة على تلاميذه الشبان الذين كان يفترض به أن يكون قدوة لهم في الإلتزام بتعالليم الشرف العسكري.. وتبعه المسلحون الآخرون في الفتك بالطلاب العزل.
ساد في المكان هرج كبير، وحاول الكثيرون أن يكسروا الأبواب للإفلات بأرواحهم، لكن الرصاص والقنابل كانت لهم بالمرصاد. وروى بعض الناجين من المجزرة كيف أن زميلهم الطالب الضابط أحمد زهيري قام بإمساك أول قنبلة رماها أحد المسلحين واحتضنها في صدره، محاولاً بذلك أن يفتدي زملاءه بروحه، وأن يحميهم من انفجارها فيهم؛ ولقد مزقته قنبلة الغدر أشلاء… ومن بعد أن اطمأنّ المسلحون إلى أن أسراهم سقطوا بين قتيل وجريح، أخذ إبراهيم اليوسف يجول على الشبان الذين ينازعون الموت، فيفرغ في صدورهم رصاصات مسدسه. ولم ينس القتلة أن يعلنوا على سبورة قاعة المذبحة أن «مجاهدي الطليعة المقاتلة» هم من قاموا بتلك العملية.. ثم خرج ابراهيم اليوسف يرافقه مصطفى قصار وماهر عطار وعادل دلال إلى ساحة المدرسة، فوجدوا المجند هوسيب مانوكيان الذي كان يحرس بوابة مستودع الذخيرة، فقاموا بقتله على الفور باعتباره «كافرا» هو الآخر. وحين احتج المجند عبد العزيز خليف على هذا السفك لدماء الأبرياء، قام إبراهيم اليوسف بتصويب الرشاش إليه وقتله (رغم علمه بأن خليف سني). وملأ إبراهيم اليوسف سيارة من نوع «زيل» بالبنادق والقنابل والذخيرة التي سرقها من مخزن السلاح في مدرسة المدفعية، قبل أن يلوذ مع عصابته بالفرار.
بعد حين…
وصل أفراد المخابرات العسكرية السورية إلى مسرح الجريمة، فوجدوا مئات من الطلبة الضباط مضرجين في دمائهم. كان منظر الأشلاء والجثث المكومة مروّعا. وكانت عبارة «الطليعة المقاتلة» الموقّعة بطريقة استفزازية على سبورة القاعة المنكوبة، بمثابة إعلان حرب لم يكن النظام السوري يومها متهيئا لها، ولا راغبا فيها. ولم تمض سويعات حتى قبض على الطلبة عبد الراشد حسين وماني خلف ويحيى النجار، فأحيلو إلى المحكمة العسكرية بعد أن شهد زملاؤهم الناجون أنهم اشتركوا في الضلوع بالمذبحة. وتم إعدام القتلة في ساحة مدرسة المدفعية.
ثم حصل في تشرين الثاني 1979 أن ألقى الأمن العسكري القبض على حسني عابو قائد تنظيم الطليعة في حلب والمشترك في جريمة مدرسة المدفعية، فحوكم وأعدم.. وفي الثالث من حزيران 1980 تمت تصفية قائد المجزرة إبراهيم اليوسف في شقة بحلب، ونقلت جثة القاتل إلى مدرسة المدفعية، ومرّرت أمام صفوف الطلاب الضباط الذين نجوا من عمليته الغادرة، وبصق الجميع عليه.
هوامش
* يدعي كثير من المعارضين السوريين أن النظام السوري قد قتل جميع أفراد أسرة النقيب إبراهيم اليوسف انتقاما منه على ما ارتكبه. والحقيقة أن عائلة الرجل ما زالت على قيد الحياة، وابنه ياسر يقيم اليوم في تركيا، وأما زوجته عزيزة جلود فهي تقيم في الرقة في ضيافة داعش.
** تروي عزيزة جلود أرملة إبراهيم اليوسف على صفحتها الفيسبوكية أنها كانت بمعيّه زوجها طيلة الفترة التي كان يطارده فيها النظام السوري (من حزيران 1979 إلى حزيران 1980)، وأنه قبيل سويعات من مصرعه ودّعها وتمنى عليها أن تتزوج أخا غيره، لأنه مقدم على الإستشهاد، وأوصاها أن تكون لزوجها الجديد مخلصة كما كانت له… لكن عزيزة جلود نفسها روت لموقع «زمان الوصل» (المعارض للنظام السوري) أنّ جنود الأسد اعتقلوها بعد يوم واحد من قيام زوجها بعملية مدرسة المدفعية، في 17 حزيران 1979. وسردت السيدة جلود قصصا عن كيفية تعذيبها في الدولاب، لمدة ثلاثة شهور، وكانت وقتذاك حاملا بابنها ياسر.. ولكن رغم كل ما نالها من التعذيب فإن ياسر لم يسقط من رحمها… والآن كبر ياسر إبراهيم اليوسف، وصار هو الآخر «مجاهدا»، وعضوا في المكتب السياسي لتنظيم نور الدين زنكي.
#غزوة_إبراهيم_اليوسف
#ما_أشبه_الليلة_بالبارحة
منقول. …….
تعليق
كل الافكار الارهابية وكل الاساليب الذي دمرت القيم وكل الاعمال التي شوهت الاسلام وكل الكذب واستخدام الاسلام والدين لخدمة السياسة المصلحية الشخصية وخدمة قوى الظلم والاستكبار في المنطقة والعالم
كل ذلك كان من صميم ثقافة الاخوان المسلمين فهم من زرعوا وبذروا البذرة الاولى وفرخوا ونشروا كل ذلك الاعمال الاجرامية
والاخوان المسلمين انتهجوا نفس الفكر والايدلوجية لمعاوية ويزيد والاموين الذين استخدموا الين والاسلام لخدمة السياسة والمصلحة وتجاوزوا الدين من اجل المصالح الدنيوية وجعلوه لخدمة السلطة والحكم وقوي الظلم والاستكبار واسسوا لهذه السياسة والانحراف والاخوان المسلمين ما هم الا امتداد لهذا النهج البشع .
بقلم صلاح القرشي
===
أشترك على قناة أخبار تعز للتلغرام وكن أول من يعلم الخبر فور حدوثه انقر هنا✅