تعز العز

اليوم المشهود

ناصر قنديل – صحيفة “البناء”

– يعرف التاريخ أياماً نادرة تكون مفاصل في حياة البشرية وترسم مسارات تحكم ما بعدها من أيام وشهور وسنوات وعلى مساحة تتخطّى مكان حدوثها ودائرته الجغرافية وصولاً لتلقي بظلالها على العالم. من هذه الأيام مثلاً، يوم اقتحام سجن الباستيل وانطلاق الثورة الفرنسية، ومنها يوم سقوط النازية ودخول قوات الحلفاء إلى برلين، ومنها يوم توقيع الاتفاق التاريخي للانسحاب الأميركي من فييتنام. وكذلك يوم سقوط جدار برلين وفتح مسار تفكك الاتحاد السوفياتي، لكن منها يوم الثاني عشر من تموز عام 2006 عندما خرجت «إسرائيل» إلى حرب أعدّت لها لتكون النهاية المأساوية لسيرة المقاومة التي أذلت «إسرائيل» وأجبرتها على الانسحاب المهين من جنوب لبنان عام 2000.

– لم يعُد مهماً أنّ إسرائيل اتخذت من أسر المقاومة لجنودها ذريعة أو سبباً معلناً للحرب، وقد رفعت لها شعاراً هو سحق المقاومة، وهدفاً هو بلوغ نهر الليطاني وتطهير منطقة فاصلة عن الحدود من كلّ حضور للمقاومة. وقد اضطرت بنهاية الحرب أن تُفرج عن الأسرى وعلى رأسهم عميدهم سمير القنطار، وقد استشهد القنطار بعملية مدبّرة من «الإسرائيليين»، لكن شيئاً لم يتغيّر من الذي جرى في الثاني عشر من تموز ذلك العام، فقد خرجت «إسرائيل» إلى حرب لها هدف يتخطّى قضية الأسرى التي تحوّلت إلى تفصيل يختزل في نهاية الحرب تحديد هوية المنتصر ليس إلا، والهدف هو سحق المقاومة، وترميم قدرة الردع التي تآكلت مع انسحابها من جنوب لبنان، وجاء توقيت الحرب في لحظة استراتيجية حساسة في مسار الحروب التي تخوضها واشنطن في الميدان والحوض الجغرافي ذاتهما المسمّى بالشرق الأوسط، وفشلها في إخضاع إيران وسورية بعد احتلالها لأفغانستان والعراق، ورهانها على نجاح «إسرائيل» بسحق حزب الله لتوليد مناخ جيواستراتيجي جديد، ولهذا رعت وزيرة الخارجية الأميركية غونداليسا رايس هذه الحرب قبل أن تبدأ، وقالت إنها مخاض ولادة شرق أوسط جديد، وكادت تصير مقيمة في بيروت لمواكبة نتائجها وجسّ النبض لتفاعلاتها، ورسمت لها سقفاً سياسياً عنوانه قرار عن مجلس الأمن يقضي بسحب سلاح المقاومة يصدر تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وعطلت لتخديم هذا الهدف الحصري أيّ محاولة لوقف النار، وتجنّدت لتخديم الحرب بيئة سياسية عربية رفعت بوجه المقاومة منذ اليوم الأول تهمة المغامرة وهدّدتها بتحمّل تبعات ما فعلت، وتشكل حلف عربي سياسي دبلوماسي وربما عسكري ومالي لمواكبة الحرب، كشفت وزيرة خارجية العدوان يومها تسيبي ليفني بعضاً من فصوله بقولها، كان بعض القادة العرب يتّصلون بنا حتى بعد منتصف ليل يوم المفاوضات الطويل عشية نهاية الحرب، يطالبوننا بعدم التوقف، ويدعوننا لتكسير عظامهم، يقولون لنا لا نريد أن نرى سبابته وهي تلوّح لنا عبر شاشات التلفزة. والقصد ما قاله حكام الخليج عن قائد المقاومة السيد حسن نصرالله، فقد تلاقى نصف العالم الممتدّ من واشنطن إلى عواصم الأطلسي مروراً بعواصم عرب الاعتدال والنفط، وصولاً إلى تل أبيب ليقول هذه الحرب حربنا، وعلى مصيرها يتوقف مصيرنا. والنصف الثاني من العالم يعيش ذعر الترقب، من موسكو إلى بكين إلى كلّ عواصم رفض الهمينة الأميركية، فكما في الحرب على العراق خشية من الاعتراض والعقاب، خرجت قمة بطرسبورغ للثمانية الكبار بحضور روسيا والصين ببيان يعلن تفهّم ما أسماه «حق إسرائيل المشروع بالدفاع عن النفس»، ولو أنّ قلوبهم كانت معنا وسيوفهم لم تكن علينا، وكان الكورنيت بعض نتاجهم فقد كانت أيديهم مغلولة، وألسنتهم مشغولة.

– في قلب هذا المشهد الداكن خاضت المقاومة حربها، ومعها قرّرت سورية وقرّرت إيران أنها حربهما، وأنّ ما ستحمله هذه الحرب سيقرّر مصير المنطقة وتوازناتها الجديدة، وتجنّدت الطاقات السورية والإيرانية لتشكل جسر إمداد لا يتوقف في قلب الحرب، وأبلغ الرئيس بشار الأسد قائد المقاومة أنّ النصر بصمود المقاومة سيكون تغييراً استراتيجياً للمنطقة والعالم، ولهذا تمتنع دولة كسورية عن دخول الحرب الآن لعدم فتح الباب على تفاوض تحكمه سقوف منخفضة، لكن الجيش السوري جاهز لدخول المعركة ساعة تقرّر المقاومة ذلك وترى أنّ قدرتها على الصمود تضعف. وكانت الحرب، وخلال ثلاثة وثلاثين يوماً فعل كلّ من الفريقين كلّ ما يستطيع ليكون النصر حليفه، والكلّ يدرك أنّ شكلاً جديداً للمنطقة والعالم سيولد بحصيلة هذه الحرب، وبالفعل يوم انتهت الحرب كان العالم الجديد والشرق الأوسط الجديد قيد الولادة، لكنه غير ذلك الذي حلمت به غونداليسا وبشّرت بولادته، بل هو عكسه تماماً، كما قرأ تقرير لجنة العراق نهاية عام 2006، وهي اللجنة التي شكلها الكونغرس الأميركي برئاسة رئيسي كتلتي الديمقراطيين والجمهوريين لي هاملتون وجيمس بيكر وعرفت باسميهما، وقالت لقد فشلنا وعلينا أن نعترف بحدود قدرة القوة على صناعة السياسة، وأن نعود إلى مفهوم الانخراط والتسويات والتفاهمات، ونعترف بمكانة إيران النووية وسورية العربية، ومكانة القضية الفلسطينية في صناعة التوتر بين الغرب والشرق، وأهمية قيام حلّ يلزم «إسرائيل» بالتخلّي عن الأراضي التي احتلتها عام 1967، ليتسنّى البدء بصناعة الاستقرار.

– انتهت الحرب وسجلت دروسها وعبرها من هرتزليا إلى تل أبيب وواشنطن وبروكسل، فقرأ البنتاغون وقرأ الأطلسي وقرأ جيش الاحتلال في كتابها، وكانت حروب وفتن ومؤامرات وكانت حروب ناعمة، وحروب ذكية، ورهانات، وأنفقت مليارات الدولارات وأزهقت مئات آلاف الأرواح، وسقطت أنظمة وتشكلت حكومات، واختبرت خيارات العثمانية الجديدة وتسليم المنطقة للإخوان المسلمين، واللعب مع تنظيم القاعدة، والرهان على تقسيم المنطقة وإدخالها في حروب أهلية لا تنتهي، كما بشّر نبي «الربيع العربي» هنري برنار ليفي، لكن المنطقة تبدو بالحصيلة أمام حقائق أبرزها أن حلف المقاومة لم يهزم، ولا يبدو في الأفق أنه قابل للهزيمة، وأنّ هذا الحلف نجح بفتح الباب لنهوض العملاق الروسي للحضور في المعادلات الجديدة منذ سقوط جدار برلين، وأن لا أفق بعد ذلك بتوفير شروط تتيح نجاح واشنطن بتحقيق الهدف الذي خرجت لأجله إلى الحروب، وهو التفرّد بحكم العالم، وفق معادلة وزير دفاعها الأسبق دونالد رامسفيلد، «ما لا تحلّه القوة يحلّه المزيد من القوة»، بل أجبرت واشنطن نفسها على إعادة أساطيلها التي خرجت للحرب على سورية دون أن تختبر فعالية القوة خشية التورّط في حروب تخرج عن السيطرة. وجاءت التفاهمات على ملف أوكرانيا في مينسك وتجاهل مصير القرم التي ضمّتها روسيا، وتبنّي مؤتمر وارسو لحلف الأطلسي هذا التفاهم، ومن ثم التفاهم على الملف النووي الإيراني، لتقول إنّ السير نحو توصيات تقرير بيكر ـ هاملتون صار هو الأقرب ليكون عنواناً للسياسة الأميركية بعد تجاهل دام لسنوات.

– أبرز الحقائق الجديدة هي أنّ الرهان الأميركي على دول الإسلام السياسي بنسخته المتطرفة في السعودية أو نسخته الحديثة في تركيا، لا يملك قيمة مضافة في تحسين شروط إمساكها بالشرق الأوسط. فالجيش الاحتياطي الوحيد الذي يستنهضه حضور الإخوان أو الوهابية هو تنظيم القاعدة، الذي لا يلبث أن يصير وحشاً جاهزاً ليفترس كلّ شيء في الغرب، وبالمقابل الرهان على التقسيم سيجلب دويلات على ساحل المتوسط وطول الخليج بضفته العربية، من لون طائفي يجعلها تدور في فلك إيران، فيضع بيدها أمن مياه المتوسط والخليج ومصير النفط في الخليج وساحل المتوسط، أيّ قرابة نصف نفط العالم القابل للتسويق، وينهي نفوذ السعودية وتركيا ويقسمهما، بينما خيار الدول الرخوة والطائفية الهشّة سيجعل من الحروب الأهلية بوابة لإستيلاد القاعدة مجدّداً بنسخاتها الأصلية والمنقحة، كجيش يتموضع تحت ستار المذهبية، وسرعان ما تصير عين القاعدة التي يرعاها الغرب على الغرب نفسه. وبالمقابل فالدولة العلمانية المدنية القوية، القادرة على الفوز بالحرب على الإرهاب، والتي تمثل سورية نموذجها الحي، هي دولة مقاومة تضع بوصلتها نحو هزيمة «إسرائيل» واسترداد الحقوق التي يغتصبها الاحتلال بقوة الحماية الغربية المستدامة والمفرطة.

– تتجرّع واشنطن رغم المكابرة، ويتجرّع حلفاؤها رغم الإنكار، كأس مرارة هزيمة ولدت في الثاني عشر من تموز، ولا تزال محاولات التملّص منها حتى اللحظة، وكلهم يعلمون أنّ المقاومة التي كتبت النصر بقادتها وشهدائها في تموز، هي المقاومة التي شكلت القيمة المضافة في حروب السنوات العشر التي مضت، وهي التي وضعت النقاط على حروفها، ويولد على يديها شرق أوسط جديد، وعالم جديد.

====