بعيداً عن عيون الصحفيين.. القنابل الأميركية تقتل مئات اليمنيين
على أحد الأسرة في وحدة العناية المركزة بمستشفى 22 مايو/ أيار في مدينة عدن بجنوب اليمن ترقد الطفلة رحمة، البالغة من العمر خمس سنوات، وهي فاقدة الوعي تغطي الحروق وجهها، وتضمد اللفافات الطبية جروحاً عدة في رأسها، وعيناها مغلقتان تحت جفنيْن متورِّميْن.. وعندما تستردُّ وعيها- إذا استردَّته، حيث أن الأطباء غير متأكدين من أنها ستنجو- فإنها ستكتشف أنها لن ترى والدتها مرة أخرى.
كانت والدتها نعمة بين 10 أفراد في عائلة واحدة، منهم خمس نساء وأربعة أطفال، قُتلوا في الضربة الجوية التي نُفذت في 9 يوليو/ تموز ودمرت مدرسة مصعب بن عمير في قرية طهرور بشمال عدن، كما جُرح في ذلك الهجوم عشرة أشخاص آخرين من أقربائهم، معظمهم أطفال.
ظلت سلمة، عمة رحمة، التي فقدت ثلاث بنات في الغارات السعودية – إحداهن رضيعة عمرها 20 شهراً – تكرر التساؤل: لماذا قاموا بقصفنا؟ ولم يكن لديّ جواب عن سؤالها!
فقد قتل في مثل هذه الضربات مئات الأشخاص وهم نيام في منازلهم، أو أثناء قيامهم بأنشطتهم اليومية، أو في الأماكن نفسها التي كانوا قد حاولوا اللجوء إليها هرباً من أتون العدوان، وفي تلك الأثناء ما فتئت الولايات المتحدة تزود العدوان بالأسلحة التي جعلت قتل العديد من البشر أمراً ممكناً.
وقد أدى العدوان السعودي إلى المزيد من تدهور الوضع الإنساني المزري أصلاً في أفقر بلد في الشرق الأوسط، وقبل النزاع كان أكثر من نصف سكان اليمن بحاجة إلى مساعدات إنسانية، وقد ارتفع هذا الرقم الآن إلى أكثر من 80 بالمئة، في الوقت الذي لا يزال الحصار الذي فرضه العدوان السعودي على الواردات التجارية مفروضاً في أجزاء كثيرة من البلاد، وظل النـزاع يعيق قدرة وكالات الإغاثة الدولية على تسليم المؤن التي يحتاجها الناس بشكل ملحّ، وما الأضرار التي ألحقتها الغارات الجوية التي شنها العدوان على ميناء الحديدة في شمال غرب البلاد، وهو نقطة الدخول الوحيدة للمساعدات الإنسانية إلى شمال البلاد، سوى أحدث مثال.
وقد حذّر برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، في الأسبوع الماضي من احتمال تفشي المجاعة في اليمن، التي ستطال الملايين، ومعظمهم من النساء والأطفال، وغالباً ما كانت قنابل الغارة الجوية التي شنها العدوان السعودي تسقط على المدنيين، مما أسهم في التسبب بهذه الكارثة الإنسانية، وتحت أنقاض مدرسة مصعب بن عمير عُثر بين المقتنيات القليلة للعائلات التي كانت تنشد المأوى في المدرسة على بعض ملابس الأطفال والبطانيات وأواني الطبخ.. ولم أجد أية علامة على وجود أي نشاط عسكري يشير إلى أن الموقع ربما كان هدفاً عسكرياً، ولكنني رأيت بقايا الأسلحة التي استُخدمت في مخلفات الهجوم زعنفة من قنبلة أميركية الصنع من طراز MK80، ذات أغراض عامة، شبيهة بتلك التي وُجدت في العديد من المواقع التي طاولتها ضربات العدوان.
وكان ذلك بعيداً عن أن يكون الحادثة الوحيدة التي أدت فيه الأسلحة الأميركية إلى قتل مدنيين يمنيين.. وفي قرية “الوهط” القريبة، أدت ضربة جوية أخرى إلى مقتل 11 شخصاً من المصلين في أحد المساجد قبل يومين من ذلك الحدث، وهناك أيضاً تساءل الناجون وعائلات الضحايا باستهجان عن سبب استهدافهم، ولم تنفجر إحدى القنبلتين اللتين أُلقيتا على المسجد، وكانت لا تزال على حالها تقريباً عندما زرتُ الموقع، كانت القنبلة من صنع الولايات المتحدة من طراز MK82 ذات أغراض عامة، وموصولة بنظام تشغيل مصنوع في الولايات المتحدة كذلك، وكانت القنبلة التي تزن 500 باوند مختومة بكلمات “قنبلة متفجرة” و”ثلاثية”، والكلمة الأخيرة تحدد نوع المتفجرات التي تحتوي عليها.
إن الأخطاء في تحديد الأهداف وفي تنفيذ الهجمات عادةً ما تقع في الحروب.. وفي مثل تلك الحالات، يتعين على الأطراف المسؤولة عنها اتخاذ الإجراءات التصحيحية الضرورية فوراً من أجل تفادي تكرار الأخطاء نفسها، ولكن ليس ثمة من علامة على حدوث ذلك في اليمن، فبعد مرور خمسة أشهر على بدء الحملة الجوية للتحالف السعودي، لا يزال الأبرياء يتعرضون للقتل والتشويه كل يوم، الأمر الذي يثير بواعث قلق خطيرة بشأن الازدراء الواضح لحياة المدنيين وللمبادىء الأساسية للقانون الإنساني الدولي، وإن الضربات التي تُنفذ بعلم مسبق من منفذيها، فإنها ستتسبب في وقوع خسائر بين صفوف المدنيين والأهداف المدنية، وتعتبر غير متناسبة وعشوائية وتشكل جرائم حرب.
وفي حين أن الولايات المتحدة ليست جزءاً من العدوان الذي تقوده السعودية، فإنها تساعد الغارات الجوية للعدوان من خلال تقديم المعلومات الاستخبارية وتسهيلات إعادة تزويد الطائرات النفاثة القاذفة للتحالف بالوقود، إن مجمل المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة إلى التحالف تجعلها مسؤولة عن وقوع خسائر في صفوف المدنيين الناجمة عن الهجمات غير القانونية.
كما كانت واشنطن، ومنذ زمن بعيد، المزوِّد الرئيسي للسعودية وغيرها من الدول الأعضاء في العدوان بالمعدات العسكرية، حيث تزودها بالأسلحة التي تطلق لها العنان الآن في اليمن، وبغض النظر عن متى تم الحصول على الأسلحة التي استخدمتها قوات التحالف في اليمن – سواء قبل العدوان أو منذ بدئه ـ فإنه على عاتق البلدان التي قدمت الأسلحة تقع مسؤولية ضمان عدم استخدامها لارتكاب انتهاكات للقانون الدولي.
إن الإرث السام لهذه الأسلحة المصنوعة في الولايات المتحدة سيصيب اليمن بكارثة لسنين قادمة، ففي قرية إنشور القريبة من صعدة بشمال اليمن، وجدتُ حقلاً مليئاً بالذخائر الفرعية العنقودية من طراز BLU-97، وهي قنابل صغيرة بحجم علبة الصودا تحتوي عليها القنابل العنقودية، وينتشر العديد منها في الحقل، وهي لم تنفجر بعد وتشكل خطراً كبيراً على السكان المحليين الذين لا يتوقعون وجودها والمزارعين ورعاة الماشية، الذين يمكن أن يدوسوا عليها أو يلتقطوها بدون الوعي بخطرها، وفي أحد مستشفيات المدينة، قابلت صبياً في الثالثة عشرة من العمر، كان قد داس على إحدى تلك القنابل العنقودية فانفجرت به، وسحقت عظام قدمه.
وكانت القنابل العنقودية قد حُظرت بموجب اتفاقية دولية في عام 2008. ولكن الولايات المتحدة كانت في التسعينيات من القرن المنصرم قد باعت هذا النوع من القنابل العنقودية المنثورة حالياً في حقول إنشور إلى السعودية. وتحتوي كل قنبلة عنقودية على حوالي 200 قنبلة صغيرة، تنتشر بفعل الانفجار على مساحة كبيرة، غير أن العديد من هذه القنابل الصغيرة لا تنفجر عند ارتطامها بالأرض، مخلّفةً إرثاً مميتاً لسنوات قادمة.
وكانت الضربات الجوية التي شنها العدوان مكثَّفة في شمال البلاد بوجه خاص، ولا سيما في صعدة وما حولها، التي يقطنها نحو 50,000 نسمة، وعندما زرتُ المدينة في يوليو/ تموز، صدمت بحجم الدمار الهائل الذي لحق بها.
فصعدة اليوم مدمّرة، وقد هجر معظم سكانها، وتحولت المنازل والمحلات التجارية والأسواق والمباني العامة إلى أنقاض، نتيجةً لعمليات القصف الجوي العشوائية والمستمرة بلا هوادة.
وفي مايو/ أيار صرح ناطق بلسان العدوان بأن مدينة صعدة بأكملها اعتُبرت هدفاً عسكرياً، وهو ما يشكل انتهاكاً للقانون الإنساني الدولي، الذي يستوجب على الأطراف المتحاربة التمييز بين المدنيين والأهداف العسكرية في جميع الأوقات.
قناه “العالم”