اليمن كانت أحد محاور الصراع والنفوذ الإقليمي
* عرب وأجانب كتبوا مقالات وألفوا كتبا عن حقبة الستينيات من القرن الفائت .. ما لم يعرفه كثيرون أن اليمن كانت حاضرة حينها في مؤلفاتهم رغم حالة التغييب التي عاشتها بفعل الرؤية القاصرة لحكام تلك الحقبة الزمنية .. حيث عملوا على عزلها عن محيطها وعن العالم تحت مبررات عدة منها: الحفاظ على المعتقد والأرض من اليهود والنصارى.
فات أولئك الحكام أن يدركوا أن العالم والمنطقة كانت على صفيح ساخن وأنها مقدمة على أحداث جسام ومتغيرات عابرة للحدود بفعل التكتلات والتحالفات وتوسع دائرة المصالح التي تشابكت وزادت نتيجة اتساع دائرة الاستكشاف وتطور أدوات الانتاج, فاتهم أن يدركوا أن جيرانهم وفي مقدمتهم بدو الخيم كانوا اكثر ادراكاً لأهمية أن يكونوا حاضرين وشركاء في صنع المستقبل فعقدوا التحالفات وأنشأوا الموانئ وتبادلوا السلع واستعانوا بالخبرات.
كل ذلك كان يحدث فيما اليمن قابع داخل قمقم كمارد ينتظر أن يأتي احدهم فيفتحه ويكسر قيوده.
كانت هناك محاولات فاشلة تمثلت في حركة الدستوريين 1948 م وتلتها حركة 55 م اللتين فشلتا في تحريره, وتأتي المحاولة الثالثة في 1962م فيتحقق المراد .. مجموعة من ضباط الجيش ساندهم بعض المفكرين والطلاب كتب على أيديهم بداية حقبة جديدة رفعت الآمال والتطلعات عاليا في تحقيق نقلة نوعية في حياة الشعب اليمني, وعززت من فرص دخولهم الى معترك الصراع على المصالح والنفوذ التي كانت تسود المنطقة.
في هذا الاطار كان هناك من دون وسجل الأحداث وقرأ الواقع وحلله فماذا قالوا في هذه الاسطر اخترنا لكم بعض ما دونوه وما افاضوا في شرحه عن واقع اليمن والمنطقة حينها وكيف كانت تسير احداث ذاك العصر وماهي المحفزات لكل ذاك التدافع والصراع ومن هم قادته وكيف كانوا يرتبون اوراقهم حينها وأين كانت اليمن من كل ذلك نتابع:
في حين كان الوضع في اليمن (الشمالي) حينها يبدو مستقرا قياسا بحركة التغيير في محيطه الجغرافي كانت الأوضاع في جنوبه تشهد حالة من التفاعل مع المحيط العربي الذي كان يشهد حركة دؤوبة ومتصاعدة ضد الاستعمار وأدواته في المنطقة وإن بشكل ضعيف, ولكن كان هناك احساس بأن العالم يتغير وأنه لا يجب ان تكون اليمن بعيدة عن ما يجري, بالنسبة للشمال كان حكامه قد فرضوا عليه عزلة شبه كلية عن ما يجري من حولهم معتقدين بأن ذلك أسلم واضمن لاستمرار سلطانهم.. هذا في ما خص الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة العربية.
بالنسبة للمحيط العربي كان في أوج حركة التحرر والبحث عن الذات وعن المكانة والدور في صناعة مستقبل المنطقة, الأمر الذي أوجد حالة من صراع الاستراتيجيات بين الدول العريقة وتلك الوليدة للظروف والنتائج التي افرزتها الحرب العالمية الثانية والاولى.
ففي الوقت الذي كان هناك صراع على النفوذ ومحاولات للتوسع إن بالحرب أو بالتحالفات والمعاهدات والاتفاقيات بين اللاعبين الكبار الفائزين بنتائج الحرب العالمية الثانية, كان هناك ايضاً صراع آخر بين كيانات أصغر وأقل تأثيراً تربطها مع الكبار إما معاهدات أو اتفاقيات أو نفوذ ومصالح, أقطار عربية وأنظمة دخلت في هذه اللعبة ومارست دور اختلف حجمه بحسب قدرات وحجم لاعبيه, من هذه الدول او الانظمة من لها تاريخ ووجود وحضارة عميقة ومنها من وجدت كمكافأة أو كمخرج لحل اشكالية تعاني منها دول محسوبة على احد الاطراف المنتصرة في الحربين العالميتين (اسرائيل), أما النموذج الثاني فقد كان يمثل دول الصدفة التي أنشأها المستعمر لخدمته وللحفاظ والرعاية لمصالحة وما يميزها أنها وجدت من العدم وعلى حساب كيانات وانظمة إما مهزومة أو ضعيفة أو معادية لسياسات المنتصر الذي استوعب درس الاستعمار المباشر وأدرك جسامة كلفته فأعاد القراءة وخلص إلى نتيجة مفادها أن يحافظ على مصالحه وامتيازاته وفق معاهدات أوعن طريق ربائب له أو صنائع لا يمكنها الاستغناء عنه ولكنها في نفس الوقت حاصلة على اعتراف دولي وكيان على الارض وتحظى بسيادة شكلية وما إلى ذلك ( المملكة العربية السعودية, وبقية دول الخليج).
الاستراتيجيات المتصارعة على النفوذ في المنطقة مثلت مصر عبدالناصر ومن قبله محمد علي باشا أحد أقطاب هذه الاستراتيجية الباحثة لنفسها عن مكانة ودور في صنع تاريخ المنطقة, كان اخر هذا المحاولات لفرض استراتيجيات المنطقة في الخمسينيات والستينيات بعد ثورة الضباط الاحرار بقيادة جمال عبدالناصر الذي انهى الحكم الملكي الذي ورث السلطة بعد افول نجم الدولة العثمانية عقب هزيمتها في الحرب العالمية الاولى, فيما كان هناك قطبان آخران يسعيان لوراثة النفوذ العثماني من الباطن وكممثلين للدول المنتصرة – إيران كدولة تبحث لنفسها عن مكان ودور، والسعودية ككيان صنعه هؤلاء الكبار يبحث لنفسه عن مكان وتاريخ معتمداً على رضى المتحكمين برسم خارطة المنطقة.
ماهي هذه الاستراتيجيات وعلى ماذا استند كل طرف في استراتيجيته؟ وكيف أداروا صراعهم؟ في هذه السطور نبحث عن الاجابات ومن خلال كتابات بعض من عاصروا حقبة الخمسينيات والستينيات فماذا قالوا؟
يقول (السير أنتوني نتنغ) في كتابه (سيرة عبد الناصر) إن هناك عدة عوامل دفعت عبدالناصر لإرسال قوات مصرية الى اليمن, من اهمها فشل الاتحاد المصري السوري في عام 1961م بعد أن استمرت لمدة 43 شهراً في محاولة منه لاستعادة مكانته وهيبته معتقداً بأنه من خلال ارسال هذه القوات سيحقق نصراً سريعاً وحاسماً ما يعيد له ولمصر مكانة الزعامة والقيادة للعالم العربي, متبنيا للخطاب القومي التحرري الذي ظهر به معاديا للاستعمار البريطاني ولوجوده في عدن, التي تمثل نقطة حيوية بحكم موقعها الاستراتيجي والمطل على مضيق باب المندب.
أما (دانا آدمز شميدت) في كتابه بعنوان ( اليمن الحرب المجهولة) فقد قال إن عبد الناصر كان ينتظر سقوط الإمام أحمد ومن ثم يعمل مع الإمام البدر, ولكن قصيدة كتبها الإمام الجوز حسب وصفه هاجم فيها الاشتراكية عام 61م هي من عجلت إرسال القوات المصرية الى اليمن مستدلا بالرد من قبل عبدالناصر على الامام أحمد بواسطة إذاعة صوت العرب, في حين اهم ما كتب عن سبب إرسال قوات مصرية الى اليمن كان ( ذكريات حرب اليمن 1962-1967) اللواء محمود عادل أحمد الذي نُشر عام1992 ويوضح فيه بأنه في 29 سبتمبر تم مناقشة القرار في مجلس قيادة الثورة, وخرج القرار ينص على ضرورة إرسال قوات مصرية الى اليمن من أجل حماية الثورة ومواجهة النفوذ والاطماع السعودية في التوسع.
في كتابه (لمصر لا لعبد الناصر) يقول المؤرخ والسياسي والصديق الشخصي لعبدالناصر محمد حسنين هيكل أنه ناقش مع عبد الناصر موضوع ارسال قوات مصرية اليها وبأنه نصحه بأن يرسل متطوعين عرب للقتال بجانب القوات الجمهورية اليمنية, ولكن عبد الناصر رفض وأصر على ذلك متعللا بحماية الحركة القومية العربية لأنه كان يعتقد أن لواء من القوات الخاصة المصرية وسرباً من الطائرات المقاتلة يمكنهما أن يحميا ويحققا النصر للجمهوريين, وأن الفرصة سانحة لتحقيق ذلك.
من هذا يتضح أن مصر دخلت في صراع الزعامة للعالم العربي مع المملكة العربية السعودية التي كانت وبإسناد من بريطانيا تسعى هي الأخرى للهيمنة على المنطقة, ويتضح ذلك أكثر حين نعرف دور عبدالناصر في اسقاط حلف بغداد 1958م الذي ادى الى سقوطها في نهاية الامر, وما تلاه من نهاية للوحدة مع سوريا التي تشير بعض الكتابات إلى أن عبدالناصر كان يعتقد أن النظام السعودي كان له دور في ذلك, ومن هذا يتضح أن الصراع بين النظامين الجمهوري والملكي كان سببه الطموح في السيطرة على القرار العربي وأن مصر والسعودية كانا يمثلان قطبي هذا الصراع وأن اليمن كانت حاضرة بقوة في صراعات النفوذ وهي في اسوأ حالات الضعف أقله من ناحية الموقع الاستراتيجي الذي يعتبره الجميع حيويا بالنسبة له بسبب مضيق باب المندب.
لم يتفهم عبد الناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة المصريون أن تمركز قوات مصرية في اليمن – على أبواب المملكة العربية السعودية – سينظر إليه على أنه مسألة حياة أو موت لعائلة آل سعود وحلفائهم البريطانيين الموجودين حينها في محمية عدن.
وكان هناك بعد آخر خفي في هذا الصراع ألا وهو رغبة السعودية في أن تصبح القوة المؤثرة في شبه الجزيرة العربية, ووجود القوات المصرية يعد تهديداً لهذا النفوذ التقليدي الذي كانت تمارسه السعودية على اليمن وعلى دول الخليج الأخرى.
وفي وقت لاحق ونتيجة للخسائر الكبيرة التي منيت بها القوات المصرية كتب المؤرخون العسكريون المصريون عن حرب اليمن بأنها فيتنام مصر, ووافقهم في ذلك المؤرخ الإسرائيلي (ميخائيل أورين)حيث كتب تحت عنوان (مغامرة مصر العسكرية في اليمن) واصفا ذلك بالكارثة وقارنها (بحرب فيتنام) بالنسبة للأمريكان, معتبراً التدخل في اليمن سببا رئيسيا خلف فجوة في الدفاعات المصرية.
وبعد حرب 1973م أدرك مخططو الحرب المصريون بعد هذه الحرب أهمية مضيق باب المندب لمصر وما يمثله من عمق استراتيجي هام خاصة في حالة الحرب مع اسرائيل.
لم يتفهم عبد الناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة المصريون أن تمركز قوات مصرية في اليمن – على أبواب المملكة العربية السعودية – سينظر إليه على أنه مسألة حياة أو موت لعائلة آل سعود، وكذلك فإنه سيعتبر زيادة في التهديد على القوات البريطانية الموجودة في محمية عدن. ولم تُأخذ هذه العوامل في الاعتبار عندما تم اتخاذ القرار النهائي بإرسال القوات المصرية إلى اليمن. وكان هناك بعد آخر خفي في هذا الصراع ألا وهو رغبة السعودية في أن تصبح القوة المؤثرة في شبه الجزيرة العربية, وقد شكلت القوات المصرية تهديداً لهذا النفوذ التقليدي التي كانت تمارسه السعودية على اليمن وعلى دول الخليج الأخرى.
اليوم وبعد مرور 53 سنة على ما سمي مغامرة جمال عبد الناصر الفاشلة في اليمن، الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي يرفع نفس شعارات ناصر القومية العربية، وتشارك مصر مجددا في التدخل والعدوان المباشر على اليمن وإن بصورة اقل اندفاعاً من ناصر, مع فارق آخر حيث وعلى خلاف فترة عبد الناصر، وبدلا من مواجهة المشروع التوسعي والمصلحي السعودي، تتحرك مصر في الفلك السعودي، عن طريق مشاركتها في التحالف الذي تقوده السعودية في حربها على اليمن.
وفي تناقض غير واقعي بين مصر الستينيات ومصر اليوم يقف المرء حائراً ففي حين كانت مصر تقف في وجه السعودية صاحبة المشروع النقيض للمشروع القومي العربي هي اليوم تقف ضد المصلحة اليمنية وفي خدمة النظام الملكي الذي مثل على ما يقارب 70 عاماً الخصم الرئيسي للنظام الجمهوري الرافض للأنظمة الملكية؟!
اليوم يتم العدوان على اليمن من قبل نفس الأطراف التي تحالفت في الستينيات – الاردن – المغرب – دول الخليج العربي – وغيرها، الجديد في هذا التحالف هو انضمام مصر الى هذا التحالف بعد أن احتواها النظام الملكي السعودي مؤخرا.
مؤرخ ومؤلف كتاب: “مقامرة ناصر: كيف تسبب التدخل في اليمن في حرب الأيام الستة وفقدان مصر لقوتها”
* يقول جيسي فيرس في كتابه :: في ربيع عام 1967، عبّر الرئيس المصري جمال عبد الناصر، عن أسفه للحرب التي خاضتها القاهرة في اليمن بقوله لسفير الولايات المتحدة في القاهرة بأن الحرب في اليمن أصبحت “فيتنام مصر”، وأوضح في وقت لاحق لمؤرخ مصري كيف تصاعد الصراع في اليمن ليخرج عن السيطرة بقوله “أرسلت سرية إلى اليمن وانتهت الأمور بإرسال 70.000 جندي لتعزيزها”.
ويقول بلسان الحال عن ما خرج به المصريون من دروس اليمن : لن نقوم أبدًا بإرسال أولادنا مرة أخرى لخوض معركة في أرض غريبة لخدمة قضية ملتبسة، لن نهدر جيشنا أبدًا مرة أخرى لبناء دولة غير موجودة، لن يكون لنا أبدًا مرة أخرى موطئ قدم في اليمن.
ولكن ربما كلمة “الأبد” قاسية وشديدة جدًا، فبعد نصف قرن من التجربة المؤلمة، عاد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مرة أخرى ليفكر بإرسال قوات برية إلى اليمن، وهذه المرة لدعم الهجوم بقيادة السعودية على الحوثيين، حيث قام السيسي بالفعل بإرسال قوات بحرية وجوية مصرية دعمًا للحملة العسكرية، وتعهد بإرسال قواته البرية إذا لزم الأمر.