كلفة المستنقع … الحرب تبتلع قوات البشير
ترتفع الفاتورة البشرية للتدخل السوداني المتواصل في اليمن، خلف كل من السعودية والإمارات، اللتين تديران الحرب هناك. وجاء الإعلان «الصادم» لقائد قوات «الدعم السريع» السودانية عن عدد قتلى قوات بلاده في اليمن، في لحظة لم يجد فيها الرئيس عمر البشير تجاوباً من واشنطن مع تسويق أبو ظبي والرياض له عند الأميركيين استجداءً لرفع العقوبات المفروضة على بلاده سوى قرار دونالد ترامب رفع السودان عن قائمة حظر السفر من دون تقديم الأسباب الموجبة، وهو الذي أصرّ على تجديد العقوبات على الخرطوم قبل مدة
ظلّ الجيش السوداني يتكتّم على عدد قتلاه في اليمن، إذ لم يعلن منذ بداية مشاركته في الحرب إلا عن مقتل أعداد قليلة من منتسبيه المشاركين في العدوان، إلى أن كشف أول من أمس، قائد قوات «الدعم السريع» الفريق محمد حمدان حميدتي أن قواته المشاركة في حرب اليمن، ضمن «التحالف» الذي تقوده السعودية، فقدت 412 عسكرياً، بينهم 14 ضابطاً.
وهي المرة الأولى التي يعترف فيها ناطق باسم القوات السودانية بهذا العدد من القتلى.
اعتراف حميدتي بعدد الجنود القتلى حتى الآن شكّل صدمة كبيرة في كل من الخرطوم وصنعاء على السواء. فقد فاق الرقم مجموع ما يمكن تعداده من البيانات المتفرقة للجيش اليمني و«اللجان الشعبية» عقب كل معركة تخاض على الجبهات الغربية.
وتشارك السودان بقوات برية لدعم العمليات العسكرية السعودية، في حين لم تُبدِ الكثير من الدول التي تعتبر صديقة ومقرّبة من الرياض حماسة للمشاركة في تلك الحرب. ووصلت في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر 2015 الدفعة الأولى منها إلى ميناء عدن. لم يشأ الرئيس السوداني عمر البشير أن يُعلن حجم قواته الحقيقي، بل صرّح بأنها «محدودة ورمزية ولن تتجاوز حدود لواء من المشاة». وقال بيان للجيش السوداني: «إن القوات السودانية أتت في إطار حماية أرض الحرمين الشريفين، وحماية الدين والعقيدة».
في أعقاب ذلك، أعلن وزير الإعلام السوداني أن بلاده وضعت ستة آلاف جندي تحت تصرّف السعودية، أرفقوا في ما بعد بألفي جندي، ليصل مجموع القوات السودانية إلى 8 آلاف جندي وضابط. وفي نهاية تموز/ يوليو الماضي، ذكرت وسائل إعلام سودانية قريبة من الدوائر الحكومية أن الخرطوم أرسلت دفعة جديدة من جنود ما يعرف بـ«قوات الدعم السريع» إلى اليمن، وتعرف هذه قوات بأنها ذات طبيعة «شرسة» تستخدمها الخرطوم للقضاء على متمردي دارفور.
وبعد سنة ونصف سنة من فشل محاولات القوات السعودية وتلك التابعة للرئيس المستقيل عبد ربه منصور هادي في السيطرة على ميدي، البلدة الحدودية الصغيرة على السواحل الغربية لليمن، اتفق الرئيس السوداني مع القيادة السعودية على إنزال القوات البرية السودانية المشاركة في العدوان لمؤازرة القوات السعودية وقوات هادي في صحراء ميدي التابعة لمحافظة حجة شمال غرب اليمن على الحدود السعودية.
وإثر ذلك، توعّد رئيس «اللجنة الثورية العليا» في اليمن، محمد علي الحوثي، في آب/ أغسطس الماضي، قوات «الدعم السريع» السودانية بـ«الإبادة». الإعلام الحربي التابع للجيش و«اللجان الشعبية» اليمنية واكب عمليات التصدي للقوات السودانية، وأظهر مشاهد لأعداد كبيرة من قتلى عسكريين سودانيين إلى جانبهم هويات عسكرية، ودبابات وآليات سودانية مدمرة في صحراء ميدي.
وقد تعمّدت الحكومة السودانية إخفاء عدد القتلى الحقيقي كي لا تثير الرأي العام المعارض للمشاركة في الحرب، حيث لقيت أعداد كبيرة من القوات مصرعها خلال كسر الجيش و«اللجان الشعبية» الهجمات المتكررة لتلك القوات، مسنودة بغطاء جوي سعودي مكثف باتجاه صحراء ميدي على الحدود مع جيزان.
إلى ذلك، تركت جثث القتلى السودانيين في الصحراء، ولم تقم القوات السعودية أو السودانية بأيّ عمل لاسترجاعها، ولم تعمد إلى إجراء صفقات مع الجانب اليمني بغية مبادلتها أو حتى تحديد أمكنة وجودها. وقد أظهر ناشطون سعوديون في الأشهر الأخيرة أشرطة فيديو لدعاة وهابيين يقومون بخطب مذهبية لتحريض الجنود السودانيين. وفي السياق ذاته، قالت وزارة الدفاع السودانية، في بيان لها، إن عمر البشير زار في 23 حزيران/ يونيو قبور قتلى القوات السودانية في مقابر البقيع، أثناء وجوده في المدينة المنورة، من دون الإشارة إلى أعدادهم أو تاريخ مقتلهم.
وكانت مصادر إعلامية متطابقة قد ذكرت أن السعودية تدخلت لدى واشنطن لرفع العقوبات عن السودان مقابل إبقاء قواتها في جبهات القتال مع اليمن. وكان اسم الرئيس السوداني متلازماً مع المحكمة الجنائية الدولية؛ فمع كل قمة أو لقاء خارج السودان، كانت تبرز التساؤلات حول تصديق الدولة المضيفة لبروتوكول روما واعتقال البشير.
في 19 تموز/ يوليو الحالي، تقدم البشير بالشكر للسعودية على الجهود التي بذلتها في تحسين العلاقات بين السودان والولايات المتحدة الأميركية، أثناء لقائه بالملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، وولي العهد محمد بن سلمان.
وقال بيان صادر عن الرئاسة السودانية إن البشير استجاب لطلب القيادة السعودية بالاستمرار في التواصل الإيجابي مع الحكومة والأجهزة الرسمية الأميركية خلال الفترة القادمة، من أجل الرفع النهائي للعقوبات المفروضة على السودان، ورفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وحل كافة الإشكالات القائمة بين البلدين.
وكما هو معروف، فإن واشنطن أدرجت السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب عام 1993، بسبب استضافته زعيم «القاعدة» الراحل أسامة بن لادن، ثم أوقفت عمل سفارتها في الخرطوم عام 1996.
الفاتورة الكبيرة التي يدفعها السودانيون، والتي كشف النقاب قبل أيام عن جزء كبير منها، ثمناً لقرار الرئيس عمر البشير الانخراط في معركة السعودية والإمارات في اليمن، لا يبدو أنها مكلفة ميدانياً فحسب. في السياسة، لا أثر جديراً بالذكر لأي مردود لرهان البشير على السير خلف الرياض وأبو ظبي حتى الآن، سوى القرار الأخير للرئيس دونالد ترامب شطب السودان من قائمة منع السفر، مع إصراره قبل أسابيع على تأجيل رفع العقوبات عن الخرطوم، وهو المطلب المحرك لسياسة البشير الخارجية منذ ثلاث سنوات. قرار ترامب رفع السودان من قائمة الحظر أتى، بحسب مصادر غربية، استجابة لمساع إماراتية في واشنطن، ما قد يعطي البشير أملاً بالسير في رهاناته، على الرغم من الفجوة بين العائدات وطموحاته.
نجاعة سياسة الاستنزاف
يعدّ الإعلان السوداني عن عدد قتلى قواته المرتفع جداً تتويجاً لطور عسكري جديد تعتمده القوات اليمنية المشتركة. فمنذ سنة تقريباً، لا سيما في الأشهر الأخيرة، اختلفت التكتيكات العسكرية المتّبعة يمنياً في بداية الحرب، وانتقل الجيش ومعه «اللجان الشعبية» إلى تكتيك الاستنزاف، وقوامه إنزال أكبر عدد ممكن من الخسائر البشرية في صفوف الجيش السعودي، وإيلامه حيث يمكن، فارتفع بذلك منسوب إجمالي القتلى في عداد الجنود والضباط السعوديين إلى أكثر من 50 في الشهر.
وأصبحت وسائل الإعلام والمواقع الخبرية السعودية لا تخلو من نعي يومي أو شبه يومي للجنود والضباط، إضافة إلى إبراز نبذ عن حياتهم العسكرية والشخصية، بعد أن كان الإعلام السعودي يتعمّد إنكار الخسائر في بداية العدوان.
تجدر الإشارة إلى أنّ الضربة الموجعة التي وجهتها القوات اليمنية إلى معسكر «كوفل» التابع للقوات الموالية لهادي في مأرب في 18 آذار الماضي، والتي سقط فيها ما يقرب من 40 قتيلاً و100 جريح بين ضابط وجندي، كانت كفيلة بإفهام القوى العسكرية التابعة لـ«التحالف»، لا سيما تلك المحسوبة على حزب «الإصلاح» الإخواني، ضرورةَ إعادة حساباتها والاقتناع بعبثية المواجهة مع الجيش و«اللجان». وقد تعزز ذلك الاقتناع بعد الأزمة الخليجية بين قطر وكل من السعودية والإمارات، ما وضع جبهة مأرب على نار هادئة، واتخذت القوى المتحاربة نقاط تماس بعيدة، مع توقف ملحوظ للهجمات الكبيرة والعنيفة.