كيف تحول التطبيع مع “اسرائيل” من جريمة الى موقف حكومي في السودان؟!
“تطبيع العلاقات مع إسرائيل يمثل خطا أحمر”، كلام لطالما ردده وتغنى به الرئيس السوداني عمر البشير، ولكن اليوم على مايبدو فان الحكومة السودانية أصيبت بعمى الألوان وأصبحت ترى اللون أخضر، فبعد أن كان السودان داعما رئيسيا لحركات المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال، أصبح بفضل “بركات” المال السعودي يدعو وعلى لسان أحد الوزراء علناً الى التطبيع مع الاحتلال، دون الحديث حتى عن الوصول الى “عملية سلام” كما يحلو للمطبعين عادة الحديث.
ففي حوار مع فضائية سودانية ، دعا نائب رئيس الوزراء السوداني، وزير الاستثمار، مبارك الفاضل إلى التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، زاعماً أن التطبيع سيحقق مصالح البلاد، معتبراً في الوقت ذاته أن القضية الفلسطينية أخّرت العالم العربي، وأن هناك بعض الأنظمة استغلتها كذريعة وتاجرت بها، واضاف الوزير إن الفلسطينيين طبعوا العلاقات مع إسرائيل، بل حتى حركة حماس تتحدث مع إسرائيل على حد تعبيره، والفلسطينيون يتلقون أموال الضرائب من إسرائيل ويجلسون ويتحدثون مع الإسرائيليين ولديهم خلافات، لكنهم يجلسون معًا.
الدعوة العلنية للتطبيع بين السودان و”اسرائيل” قوبلت بصمت حكومي كامل، ولا سيما أن الوزير في الأساس انضم للحكومة ضمن الحقائب المخصصة للقوى المعارضة التي شاركت في الحوار، واكتفى وزير الإعلام السوداني، أحمد بلال، بالقول إن موقف الوزير “رأي شخصي يخصه وحده ولا يعبر عن الموقف الرسمي للحكومة أو البلاد”.
كيف تحول التطبيع من جريمة الى تنافس بين المسؤولين السودانيين؟
تصريحات الفاضل التي اعتبرها السودانيون معجونة بطينة الخيانة والعمالة لم تكن سابقة تسجل بسمه، أو كما يوصف ليست من خارج السرب والنهج الحكومي، اذ سبق تلك الدعوة، دعوة مماثلة من رئيس الدبلوماسية السودانية، وزير الخارجية إبراهيم غندور، والذي تحدث ايضا عن إمكانية تطبيع السودان مع الكيان الصهيوني، حيث قال غندور في وقت سابق ان بلاده لا تمانع في دارسة إمكانية التطبيع مع إسرائيل، وإن السودان “لا يرهن علاقته بدولة على حساب أخرى“، مخاطبا ودّ واشنطن بالقول أن الصلات مع امريكا ظلت متأرجحة على مر الحكومات،
كذلك فقد صدرت دعوات التطبيع من قبل سياسيين في حزب المؤتمر الوطني الحاكم وآخرين ورجال دين، حيث صرح الداعية السوداني ورئيس حزب الوسط يوسف الكودة بالدعوة للتطبيع وأفتى فيها دينياً، مما يشكل تراجعاً واضحاً عن المبادئ التي تبنتها الحكومة السودانية في مواقفها المعادية للكيان الاسرائيلي ودعمها لحركات المقاومة بشكل متواصل.
الاستجداء السوداني للتطبيع مع اسرائيل وامريكا لم يكن مفضوحا رغم أنه كان موجود، اذا سرب موقع ويكيليكس منذ فترة برقية للسفارة الأمريكية في الخرطوم، تعود لأكثر من 9 أعوام وتضمنت حواراً بين مساعد الرئيس السوداني حينذاك مصطفى عثمان إسماعيل، ومسؤول شؤون أفريقيا في الخارجية الأميركية ألبرتو فرنانديز، طلب فيها المسؤول السوداني مساعدة واشنطن لتسهل التطبيع مع الكيان الإسرائيلي في حال اكتمال التطبيع مع أمريكا نفسها، وهو أمر سارع إسماعيل وقتها لنفيه تماما.
فتش عن دور المال السعودي
تحول الخط الحكومي (وليس الشعبي) في السودان من موقف معين بحجم قضية التطبيع الى النقيض أثار تساؤلات كبيرة حول التوقيت وأهمية هذه الموضوع، اذ كانت الخرطوم تعاقب مجرد الكلام في موضوع التطبيع، ليصبح الأمر فيما بعد بان يقوم وزراء يدعون اليه (التطبيع)، وفسّر بعض المراقبين للسياسية الحكومية الحالية في الخرطوم، بأن هذه الأمر ماهو الا مبادرة سودانية بايعاز سعودي، اذ اصبح على أي سياسي السوداني ان اراد منصب مهم في بلاده أن يكسب رضا السعودية أولا، وبالتالي يكسب بطبيعة الحال رضا الرئيس السوداني عمر البشير الذي نقّل منذ بداية العدوان السعودي على اليمن، البندقية من كتف الى كتف طمعا ببعض الملايين السعودية، واعلن بشكل واضح خروج من محور المقاومة وانتقاله لمحور البترودولار و قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران بدعم ومباركة من قبل الادارة الامريكية، التي رفعت وبشكل جزئي عن الخرطوم منذ بداية العام الحالي بعض العقوبات الاقتصادية المفروضة على الخرطوم.
اسرائيل هللت لكلام الوزير السوداني، ودعا وزير الاتصالات الإسرائيلي أيوب قرا، وزير الاستثمار السوداني إلى زيارة الكيان الإسرائيلي من أجل ما اسماها “الترويج للسلام“، في حين احتفت صحيفة “هآرتس” بهذه التصريحات ووصفتها بأنها غير اعتيادية بالنسبة لوزير رفيع في الحكومة السودانية التي لا تعترف بإسرائيل ولا تقيم معها علاقات دبلوماسية.
وبعد أن كانت اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية مجبرة على الخوف من السودان ونشاط حركات المقاومة هناك التي كانت حتى وقت قريب بمثابة مستودعا لتهريب الأسلحة إلى قطاع غزة، اضف الى وجود مصانع أسلحة تمد تلك الحركات بما تحتاجه لمقاومة الاحتلال، أصبحت تل أبيب مطمئنة البال بعد تغيير حكومة البشير لدفة السفينة والسباحة في الحضن السعودي المطبع طمعا بفتات الدولارات، وهنا نتذكر بالمناسبة كيف حلقت الطائرات الاسرائيلية، لمدة أربع ساعات للوصول الى جنوب البحر الأحمر، للوصول الى منطقة ام درمان، غرب الخرطوم، من أجل قصف معمل “اليرموك” لتصنيع الاسلحة و الصواريخ بعيدة المدى، أما الأن فان حكومة الخرطوم ترفض حتى استقبال قيادات من حركة حماس التي كانت حتى فترة ليست بالبعيدة من أقرب المقربين ايديولوجياً وعقائدياً لحكومة البشير.
الوقت