المعلم الثالث “ابن سينا”؛ حياة مثيرة بين المجد والظلم والتكفير
من منا لايعرف أو يسمع بـ”ابن سينا” أو كما يسميه الإيرانيون “أبو علي سينا”، هذا العبقري المتنور الذي أضاف للبشرية جمعاء فكرا وعلما ومعرفة كبيرة في مجال الطب والفلسفة، ليسبب فيما بعد انعطافا تاريخيا وعلميا في الفكر والطب والفلسفة، ومازال المفكرين والأطباء في جميع أنحاء العالم ينهلون من علمه وفكره وكتبه التي تجاوز عددها الـ” 450″ كتاباً في مواضيع مختلفة، إلا أن 240 منها فقط متوفرة حتى يومنا، منها 150 كتاباً يركز على الفلسفة و40 على الطب.
ورغم كل ما قدمه ابن سينا للبشرية من انجازات علمية ومعرفية، لم يسلم من ملاحقة الأعداء له بسبب تميزه وتوليه مناصب مهمة في عهد السلطان نوح بن منصور الساماني ، وأصبح نفوذه كبيرا فيما بعد لدرجة أنه أثار غيرة وحسد من حوله، ولهذا السبب كان يتنقل كثيرا خوفا من أن يقتله أحد الجبناء غدرا، وربما استقى نيتشه عبارته الشهيرة من هذا الحدث، حيث قال “ينبغي أن نحمي الأقوياء من الضعفاء، أي العباقرة من التافهين”، ولم يتوقف الأمر في محاربته على الناس العاديين بل تجاوز ذلك إلى فئة الفقهاء ورجال الدين، حيث هاجمه الغزالي بعنف ثم كفره الفقهاء اللاحقون.
ابن سينا
هو الشيخ الرئيس علي بن سينا أحد كبار فلاسفة العرب والإسلام. إنه من النوابغ الذين لا يجود بهم الزمان إلا قليلا. ومعلوم أنه ولد عام 980 م بالقرب من بخارى، أي في أوزبكستان الحالية. ولكن المنطقة آنذاك كانت تابعة للعالم الإيراني لغويا وثقافيا وحضاريا. والدليل على ذلك أن اللغة الأم لابن سينا كانت الإيرانية لا العربية. فيما بعد نبغ في العربية ودبج معظم مؤلفاته.
ومعروف عن ابن سينا أنه كان مولوعا بالقراءة والكتابة، لذلك كان منهمكا في قراءة مؤلفات المعلم الثاني “الفارابي” ويعترف بفضله الكبير عليه. وقد أصبح ابن سينا لاحقا المعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي.
في سن الحادية والعشرين استطاع ابن سينا تأليف أول كتاب فلسفي له، وفيما بعد اضطر إلى الدخول في إدارة الدولة كموظف بعد وفاة والده الذي كان يصرف عليه حتى ذلك الوقت. وقد قسم ابن سينا وقته إلى قسمين: في الليل كان يطالع الكتب ويحضر نفسه للأيام القادمة والمؤلفات الكبرى، وفي النهار كان يشتغل في قصر الأمير كمستشار أو كموظف إداري مرموق. هذا وقد أصبح ابن سينا وزيرا عدة مرات.
انجازاته العلمية
1- في مجال الفلك
تمكن ابن سينا من أن يرصد مرور كوكب الزهرة عبر دائرة قرص الشمس بالعين المجردة، وقد أقر العالم الفلكيّ الإنجليزيّ جيرميا روكس ذلك، وكما قام بدراسات فلكية وهو في أصفهان، وهمدان، ثمّ اشتغل بالرصد، وابتكر جهازاً لرصد إحداثيات النجوم، ثم ألّف عدة مؤلفات، منها: كتاب الأرصاد الكلية، وكتاب الأجرام السماوية، ورسالة الآلة الرصدية، ومقالة في هيئة الأرض من السماء وكونها في الوسط، وكتاب إبطال أحكام النجوم.
2- علم الأحياء
نجح ابن سينا في وضع أسس علم طبقات الأرض، مثل تكوين الحجارة، والمعادن، والجبال، إذ يرى أنّها تكوّنت من طين لزج وخصب، إضافةً إلى أنّه تحدّث عن الزلازل وفسّر أسباب حدوثها، ووضّح كيفية تكون السحب، ووجد أنّ البخار هو أصل السحب، والمطر، والجليد، والثلوج، والبرد، والصقيع، وقوس قزح.
3- الفلسفة
كما ذكرنا آنفا فإن الفكر الفلسفي لابن سينا يعد امتداداً لفكر الفارابي، حيث أخذ عنه فلسفته الطبيعية والإلهية، أي تصويره للوجود وللموجودات، كما وأخذ عنه نظرية الصدور، في حين عُني كثيراً بنظرية النّفس، وطوّرها، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ مخالفيه ادّعوا بأنه نادى بأن العالم غير مخلوق، وأنه أزلي، وأن الله لا يعلم الجزئيات، وأن أجسام الناس لا تقوم مع أرواحهم يوم القيامة.
3- الطب
هو أول من قال بالعدوى وانتقال الأمراض المعدية عن طريق الماء والتراب، وبخاصة عدوى السل الرئوي. وأوَّل من وصف التهاب السحايا، وأظهر الفرق بين التهاب الحجاب الفاصل بين الرئتين والتهاب ذات الجنب.
واكتشف ابن سينا الدودة المستديرة أو دودة الإنكلستوما قبل الطبيب الإيطالي روبنتي بأكثر من ثمانمائة سنة، كما اكتشف الفرق بين إصابة اليرقان الناتج من انحلال كريات الدم، وإصابة اليرقان الناتج من انسداد القنوات الصفراوية.
ويعود له الفضل بوصف مرض الجمرة الخبيثة وسماها النار المقدسة، وهو وأوَّل من تحدَّث وبشكل دقيق عن السكتة الدماغية، أو ما يسمى بالموت الفجائي. ومن بين إنجازات ابن سينا وإبداعاته العلمية، اكتشافه لبعض العقاقير المنشّطة لحركة القلب.
كذلك اكتشف ابن سينا أنواع من المرقدات أو المخدّرات التي يجب أن تعطى للمرضى قبل إجراء العمليّات الجراحية لهم تخفيفاً لما يعانونه من ألم أثناء الجراحات وبعدها.
كذلك وصف ابن سينا الالتهابات والاضطرابات الجلدية بشكل دقيق في كتابه الطبي الضخم «القانون»، وفي هذا الكتاب وصف ابن سينا الأمراض الجنسية وأحسن بحثها، وقد شخَّص حمّى النفاس التي تصيب النساء، وتوصَّل إلى أنها تنتج من تعفن الرحم.
وفاته
في عام 1023 التجأ إلى بلاط أمير أصفهان، حيث لقي بعض الطمأنينة وعاش حياة هادئة نسبيا طيلة أربعة عشر عاما. وفي عام 1037 مات ابن سينا بشكل مباغت من مرض في الأمعاء عندما كان يرافق أميره في حملة عسكرية ضد مدينة همدان ليدفن في نفس المدينة.
الوقت