كيف تحوّلت الثورة وَالجمهورية إلى أداتين لتدمير الدولة؟!!!
لا ينطبقُ المثَلُ الشعبي “حاميها حراميها” على أحد قدْرَ انطباقه على مَن يتخذُ من النظام الجمهوري وحمايته قميصَ عثمان.. هؤلاء المخاليقُ يمثّلون أخطرَ عملية تزوير لهُوية وروح الجمهورية.
أَمَّا أَكْبَر شتيمة للثورة والجمهورية فهي أن تدّعيَ حمايتَها تلك الطحالبُ المتقلبة في أحضان أشد الأنظمة الملكية تخلفاً واستبداداً.
لنتركْ هؤلاء جانباً وبصرف النظر عن التوظيف المكيافيلي للمقدّس الوطني، وبعيداً عن خطاب المشاكسة السياسية، ليس من قبل المبالَغة إذا قلنا إن أَكْبَرَ ضربة وُجّهت لمشروع الدولة اليمنية الحديثة كانت يافطةَ حماية الجمهورية، فتحت هذا العنوان أُفرِغت الدولةُ والجمهورية من مضمونها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وباسم الحفاظ على النظام الجمهوري ضُربت مرتكزات الدولة وتحوّلت مُؤَسّساتها إلى هياكلَ من دون روح، وغطاء للهروب من استحقاقات تفاقم أزمة مشروع الدولة والوصول بالوضع إلى مرحلة الانسداد الشامل فالانفجار في2011م.
قد يبدو الأمرُ غريباً إلّا إن الدولة والجمهورية تشكلتا كمقولتين متناقضتين في ممارسات النخب الحاكمة التي فشلت في بلورة صيغة سياسة تحقق الدولة والجمهورية دون حاجة للتضحية بالدولة لحماية الجمهورية؛ ولأن العلاقة بينمها كالعلاقة بين الروح والجسد فإن التضحية بأحدهما يعني التضحية بالآخر وتحولها إلى أشكال صورية فارغة.
كيف ذلك؟
بعد ثورة سبتمبر، ونتيجةً للضغط الذي واجهته الثورة وبدافع الحاجة لاكتساب المزيد من القوى الاجتماعية إلى صف الثورة والجمهورية لجأت القوى الثوريةُ المسنودة من الجيش المصري إلى إغراء المشايخ والقوى التقليدية وشكّلت مجلساً أعلى لشئون القبائل ومنحت كُلَّ شيخ رتبة وزير ومُخصّصات مالية ثابتة، إضَافَةً إلى حقه في الحكم المحلي لمنطقته باعتباره ممثلَ الدولة فيها، وهكذا تمكّنت القوى التقليدية من إزاحة القوى الثورية والحداثية التي تعد الحاملَ السياسيَّ لمشروع الدولة الحديثة (القوى الحداثية كانت برجوازيةً سياسية فوقية لا تتمتع بالوزن الاجتماعي للقوى القبلية) واحتلال المواقع القيادية العليا في الجهاز الحكومي والإداري، هذه القوى وقفت بحزم لكبح عجلة التحديث وإعاقة مشروع الدولة، وبالتالي إفراغ الثورة من مضمونها الاجتماعي التقدمي.
حاول الرئيسُ إبراهيم الحمدي إنهاءَ نفوذ القوى التقليدية والقبلية في جهاز الدولة ومُؤَسّساتها، خَاصَّةً الجيش، لكن مشروع الحمدي اصطدم بالسعودية والمشايخ فعملوا على اغتياله.
التحالُفُ الذي تشكّل بعد الحمدي وتكوّن من نُخبة مُركّبة سياسية وقبلية وعسكرية ودينية أدى إلى إضعاف الطابع المُؤَسّسي للدولة ككيان سياسي مُؤَسّساتي قانوني قوي يحتكر أدوات القوة ويحافظ على السيادة الوطنية ويحقق تنمية متوازنة ومتكاملة وأنتج في المقابل ما تسميه الدراسات الاجتماعية “بالدولة الرعوية” وَنشوء العلاقات الزبونية بين الدولة والمواطن بمعنى أن الفرد لا ينال حقوقَه كمواطن تتعامل معه الدولة مباشرةً من خلال مُؤَسّساتها المدنية والقضائية والخدمية بل كعضو في جماعة قبيلة أَوْ حزب أَوْ طائفة، وهي المعيار في تحديد مكانة الفرد اجتماعيًّا وتحديد دوره السياسي والاقتصادي، وأصبح للدولة كيانان هما: الكيان الشرعي المُؤَسّسي الشكلي، والكيان الفعلي الذي تتحدد بواسطته عمليات صنع القرار السياسي وفق تركيبة بناء القوة أَوْ السلطة أَوْ خارطة توزيع عناصر القوة والسلطة بين مراكز النفوذ التي تعملقت على حساب الدولة وتحولت لكيانات موازية للدولة تنافس الدولة في السلطة والقوة، وتفرض هيمنتَها على القوى والمكونات الاجتماعية والسياسية الأُخْرَى، مستفيدة من علاقتها بالدولة وما توفره من إمكانات مادية ومعنوية ضخمة، ولا يحكم في صراعها مع بقية القوى الأُخْرَى أي أطر دستورية ولا قانونية، مما يحمِلُ التكوينات والقوى الاجتماعية للبحث عن مصادر حماية ذاتية، وبالنتيجة تآكل شرعية الدولة وضعف سيطرتها على كُلّ الجغرافيا اليمنية، وانتشار السلاح المتوسط والثقيل، وتكون كيانات شبه عسكرية من الجماعات والأحزاب والقبائل، والدخول في متوالية هندسية من الصراعات والفوضى السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتقويض السيادة الوطنية وتحول اليمن لساحة استقطاب إقليمية ودولية.
تلكم هي باختصار حكاية الدولة اليمنية..
ومن يقول غير ذلك يخدع نفسَه ويخدع الآخرين..
كل اليمنيين تقريباً ذاقوا مرارةَ غياب مشروع الدولة، وكل الأطراف شربت من ذات الكأس الذي جرعته دهراً خصومها.
عسى هذه الفترة الطويلة من كَيّ الوعي تكون كافيةً للوصول بالقوى السياسية إلى قناعة راسخة أنه لا الحزب ولا القبيلة ولا الطائفة ولا الجماعة توفّر الحمايةَ ولا الرعاية الحقيقيتين، وأن الدولة القوية، دولة المُؤَسّسات والمواطَنة المتساوية هي وحدَها القادرة على حماية البلاد والعباد.
✍ عبدالملك العجري