برزخٌ لا يبغيان
تكمن مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة للوجود العربي ومن ثم الإسلامي، في كونها تمثل وتداً محورياً رئيساً ناظماً لهذا الوجود المهدد بالأمس، وبصورة فاضحة اليوم، بـ«الكنتنة»، وتمزيق النسيج الإجتماعي لشعوبه، وتقويضه حضارياً لجهة هيمنة الرواية الإستعمارية، بما هي شيفرة الهيمنة الجيوسياسية لقوى الإستعمار على المنطقة.
في حالة نسيج عربي شعبي تجري جندلته وتعبئته طائفياً ومناطقياً وعرقياً داخل حيِّزات جغرافية انعزالية، فإن مجرد الحديث عن قضية وطنية قُطرية يغدو ترفاً، بينما يجعل الحديث عن قضية فلسطينية من صاحبه مثار سخرية واستهجان كائنات البيئات الإنعزالية العاجزة عن استشراف أفق أبعد من أسيجة العزلة المضروبة حولها باسم الطائفة والعرق والمنطقة.
على هذا المستوى، وضمن هذا السياق العربي الإسلامي المأزوم، تتجلى قيمة خطاب «أنصار الله» اليمنية و«حزب الله» اللبناني العابر للكانتونات، صوب أفق وطني قومي ديني إنساني أممي رحب وفسيح. كما تتجلى خطورة هذا الخطاب بالنسبة لقوى الإستعمار في هذه القيمة ذاتها. وعليه، فلا غرابة في أن يفصح الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بفجاجة، عن استيائه من «حزب الله» عقب تحرير جرود عرسال اللبنانية من سطوة «جبهة النصرة» الإرهابية الوكيلة للمشروع الإستعماري، امتداداً لاستياء سلفه أوباما بالأمس عقب نجاح حركة «أنصار الله» في تقويض حواضن وأوكار وفقاسات الوصاية والهيمنة الأمريكية من «قاعدة» و«نصرة» و«داعش» و«إخوانجية» في اليمن عام 2014م. إستياءٌ سرعان ما جرت ترجمته على هيئة عدوان تحالف عسكري كوني ـ انتصف عامه الثالث ـ على اليمن.
إننا إزاء فرز محاور أكثر جلاءً على محك ملفات شتى تنتظمها القضية الفلسطينية كمركز
غير بعيد، تكتسب رصاصات «الجبارين» في باحة الأقصى، الشهر الفائت، قيمتها وخطورتها من ذات السياق؛ فحيث تمكنت الصهيوأمريكية من جدولة تراتبية الصراع وأولوياته في المنطقة بما يجعل من الكيان الصهيوني الغاصب حليفاً ومنقذاً للعرب وينهي مركزية القضية الفلسطينية لجهة مركزية الهويات الإنعزالية المحتربة، شقلبت رصاصات الشهيدين في صدور شرطة الإحتلال الإسرائيلي جدول اهتمامات الرأي العام العربي المشرذم من جديد، وأعادت لصق أجزائه وصوّبت انحراف البوصلة، بحيث عادت القضية الفلسطينية إلى واجهة المشهد العربي بوصفها محكاً فيصلاً لمواقف مكوناته الرسمية إيجاباً وسلباً، حتى وإن بدا أن كفة المواقف الإنبطاحية كانت هي الأرجح.
كنا بحاجة ماسة ـ أعني غالبية الشارع العربي بطبيعة الحال ـ إلى أن ينتقل الصراع من طور عماء المحاور إلى طور سفورها، وهذا هو ما حدث على وجه التحديد. يمكن لنظام وكيل كبني سعود أن يتمترس خلف مكة، لكن ليس خلف الأقصى وبيت المقدس؛ ففي حال هذين الأخيرين تبرز روابطه المتينة مع الكيان الصهيوني كحائط صد يعجز معه عن تمويه موقفه المعادي للقضية الفلسطينية فعلياً، كما ورد على لسان مفتي المملكة الوهابية، عبد العزيز آل الشيخ.
إن طائرات بني سعود وتحالف العدوان الأمريكي المموه بلافتة عربية لن تحوّل مسارها من سماء اليمن إلى سماء فلسطين المحتلة، ومن الإغارة على أطفال ونساء اليمن إلى الإغارة على الكيان الصهيوني، تلبية لنداء القدس والأقصى، لكن حركة «أنصار الله» من الآن وصاعداً ستوزع نار رشاشاتها بالتساوي في صدور الكيانين الإستعماريين الصهيوني والسعودي، جنباً إلى جنب مع محور المقاومة، وتلك نتيجة مستخلصة من رحم متغيرات الأقصى والموصل وجرود عرسال الأخيرة.
إننا إزاء فرز محاور أكثر جلاءً على محك ملفات شتى تنتظمها القضية الفلسطينية كمركز، في مضمار اشتباك مديد وواسع بين مشروعين: عربي إسلامي تحرري أصيل، وصهيوني أمريكي بأدوات عربية إسلامية لم يعد زيفها خافياً.
✍ صلاح الدكاك