ذاكرة من أجل فلسطين …..
في اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني (29/11)، الذي هو اليوم ذاته الذي أصدرت به الأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين ال مشؤوم عام 1947، وكأن العالم أراد أن يعتذر لشعب فلسطين عن القرار الذي كرّس قيام كيان غاصب على أرضه بإطلاق للتضامن اسماً على يوم يعامله الفلسطينيون والعرب يوم للتقسيم.
ومع ذلك يتحول هذا اليوم إلى حال تضامن عالمي فعلي مع فلسطين، بات يقلق الصهاينة يوماً بعد يوم، فالملاحقات الدولية لأركان هذا العدو تتلاحق من عاصمة إلى أخرى (آخرها في اسبانيا وجنوب أفريقيا) وصولاً إلى ما يسمى بالمحكمة الجنائية الدولية التي تتوقف مصداقيتها على طريقة تعاطيها مع جملة جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها الصهاينة منذ قيام مشروعهم.
وموجة المقاطعة الدولية، الاقتصادية والثقافية والإعلامية، تتصاعد في كل أنحاء العالم، سواء على المستوى الرسمي (قرار الاتحاد الأوروبي الأخير بدمغ منتجات المغتصبات الصهيونية “المستوطنات” لتمييزها عن غيرها من اجل مقاطعتها) أو على مستوى الجامعات والفنانين والمثقفين في أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية بالاضافة إلى التجاوب الملحوظ مع حملات B.D.S. للمقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات، فيما تتعطل، للأسف، بالمقابل مكاتب المقاطعة العربية وتقيم دول عربية وإسلامية علاقات تطبيع علنية أو سرية مع هذا الكيان…
والتظاهرات الشعبية تملأ شوارع العالم في كل مرة يرتكب فيها الصهاينة جريمة جديدة سواء في غزة أو القدس أو الضفة الغربية أو جنوب لبنان، بما يؤشر لمرحلة جديدة من علاقة الكيان الغاصب بالرأي العام العالمي الذي بدأ يكتشف أن من كان يصوّر نفسه ضحية للنازية ثم للعرب والمسلمين ليس إلا جلاداً بكل ما في الكلمة من معنى. والصهاينة يدركون أكثر من غيرهم معنى هذا التحوّل التاريخي لأنهم يدركون أكثر من غيرهم كم شكّل التعاطف العالمي معهم مصدر قوة، بل سبب وجود، لهذا الكيان الغاصب، وقد بات حتى بعض حلفائه التاريخيين في واشنطن يعتبرونه “عبئاً على مصالحهم الإستراتيجية” بعد أن كان قاعدة متقدمة لهم (شهادة رئيس أركان القوات الأمريكية السابق أمام الكونغرس الأمريكي).
في ظل هذا المناخ الدولي الجديد والخطير على المشروع الصهيوني تخرج اليوم الانتفاضة الفلسطينية الثالثة المستمرة منذ 8 أسابيع لتطلق داخل الكيان موجة ذعر لم يشهدها من قبل، ولتشير إلى أن الكيان الآخذ باحكام العزلة الدولية عليه، آخذ ايضا في الاهتزاز الأمني داخلياً مما يجعله يفقد تدريجياً المرتكز الثاني لقوته وهو الأمن لكيانه والآمان لمستوطنيه.
يبقى لهذا الكيان مرتكز ثالث ما زال قوياً وهو الواقع العربي والإسلامي، المتواطئ بأغلب حكامه، والمهدد بالتفتيت والتحريض العنصري والطائفي بأغلب مجتمعاته… بل ليس لدى أركان هذا الكيان ما يقولونه لمواطنيهم الجزعين القلقين المتوترين: انظروا إلى ما يجري حولكم. تدركون إنكم بأحسن حال.
في الدائرة العربية والإسلامية هذه، بعد الدائرتين الفلسطينية والدولية، ينبغي أن يتركز عمل كل عربي أو مسلم أو مدافع عن حقوق الشعوب، ناهيك عن حقوق الإنسان، فيضع الاستراتيجيات المناسبة، ويطلق التحركات اللازمة، ويجري المراجعات الضرورية، ويعيد النظر بالعلاقات القائمة، من اجل أن تنهار ما أسميته يوم الحرب الأخيرة على قطاع غزة “بالقبة الفولاذية الحقيقية” أي الواقع الرسمي العربي المكبّل بالعجز والتواطؤ، والواقع الشعبي العربي المنخور بالانقسام والصراعات الجانبية وتغليب الاعتبارات الذاتية على الاعتبارات الوطنية….
في الدائرة العربية والإسلامية ينبغي استحضار كل ما في ثقافتنا وتراثنا وذاكرتنا من قيم ومبادرات استنهاض ووعي تعيد إحياء مخزوننا الثقافي والروحي، وذاكرتنا الفردية والجمعية، بل تعيد إحياء العلاقة بيننا وبين هذه الذاكرة والمخزون والتراث.
في هذا الإطار نستعيد في اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، احداثا تؤكد على عمق الالتزام بفلسطين لدى أبناء امتنا..
ولقد اخترنا احداثا بالذات لوقوعها في مثل هذه الايام قبل سنوات.
الحادثة الأولى جرت في مثل هذه الأيام في 26/11/1975 على ارض كفركلا الجنوبية اللبنانية، حيث ظن العدو الصهيوني انه يستطيع أن يدخل القرى الحدودية دون مقاومة في ظل اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، فتوغلت قواته في بلدة كفركلا لتفاجأ بنيران المدافعين من أهلها وعلى رأسهم القائد المقاوم العروبي البعثي عبد الأمير حلاوي (أبو علي) فيقتلون من الغزاة عددا ويجرحون عددا اكبر في معركة استمرت حوالي عشر ساعات، واستشهد فيها أبو علي حلاوي بعد أن كان قد استشهد في مواجهة مماثلة قبل اشهر 1/1/1975، في قرية الطيبة الحدودية رفاق له هم الشهداء علي وولداه عبد الله وفلاح شرف الدين في ملحمة اهتز لها لبنان كله وأقيمت الاحتفالات التأبينية لشهداء الطيبة من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال مروراً بمهرجان ضخم في مدينة جبيل.
الحادثة الثانية حصلت في جنوب لبنان وشمال فلسطين فجر 27/1/1988، حين نفذ خالد احمد اكر (عربي سوري) وميلود بن لومه (عربي تونسي) أول عملية استشهادية نوعية بالطائرات الشراعية خطط لها الأخوة في (الجبهة الشعبية – القيادة العامة) فهبطت الطائرة الأولى في الشريط الجنوبي اللبناني المحتل، وواجه قائدها التونسي بن لومه منفرداً قوات الاحتلال وعملائه وتمكن من قتل وجرح العشرات منهم قبل ان يستشهد، فيما نجح الطيار الثاني السوري اكر في الوصول إلى معسكر صهيوني قرب ترشيحا الفلسطينية المحتلة، ففوجئ حراس المعسكر بوجوده ووقعت معركة نجح فيها الاستشهادي بقتل 6 جنود إسرائيليين وجرح 20 آخرين قبل ان يستشهد هو الاخر… وهكذا امتزجت ارض فلسطين، كما ارض جنوب لبنان، بدماء الفدائيين العرب في واحدة من أروع ملاحم وحدة الدعم والنضال على مستوى الأمة…
أما الحادثة الثالثة، فوقعت في صحراء النقب على الحدود المصرية، حيث قام الجندي العربي المصري أيمن محمد حسن محمد بتنفيذ عملية عسكرية في 27/11/1990 هاجم خلالها جيب واوتوبسيين إسرائيليين وأصيب في رأسه بعد أن قتل 21 ضابطا وجندياً إسرائيليا وجرح 20 آخرين، ثم عاد إلى الحدود المصرية وسلم نفسه لسلطات بلاده.
وحين سئل أيمن حسن عن سبب إقدامه على تنفيذ هذه العملية أجاب انه قام بها على خلفية ارتكاب الإسرائيليين مذبحة المسجد الأقصى الأولى والتي راح ضحيتها 21 شهيداً فلسطينياً، بالإضافة إلى رؤيته احد الجنود الصهاينة وهو يمسح حذاءه بالعلم المصري…
حوادث من قلب ذاكرة الالتزام العربي بفلسطين نقدمها اليوم لشباب الانتفاضة وشاباتها وقد ولد معظمهم بعد تلك العمليات البطولية لكي يدركوا أن أمتهم كانت، وستبقى، إلى جانبهم، وفي قلب معركتهم، مهما أمعنت مخططات العدو فيها تقسيماً وتفتيتاً واحترابا…
*معن بشور