في فقه التمكين، تركيا وما بعد حلب
السؤال فيما بعد حلب هو؛ هل تذهب تركيا بعيداً في التفاهم مع روسيا وإيران حول سوريا، وهل يعني ذلك أنها تقطع مع سياستها السابقة تجاه الأزمة السورية، وما تأثير ذلك على علاقتها بحلفائها، وخاصة الولايات المتحدة؟
صحيح أن ما بعد تحرير حلب ليس كما قبله، ولكن ليس فيما يخص تركيا، ذلك أن التحرير هنا لا يَجُبُّ ما قبله، وإنما يعززه ويكشف عن المزيد، فما كان توقعات وتقديرات ومؤشرات مترددة حول تغيير في سياسة تركيا تجاه الأزمة السورية أمسى بعد التحرير يقيناً، وخاصة أن روسيا وإيران وتركيا أفصحت، كل منها على طريقتها، عن أن تفاهمات حكمت موقف الأخيرة من تحرير المدينة، وأن الأمور ربما تنسحب لاحقاً على المشهد السوري ككل.وقد تضمن البيان الذي صدر بعد لقاء موسكو (20 كانون الأول/ديسمبر الجاري) بين وزراء خارجية البلدان الثلاثة مؤشرات دالةً على ذلك.السؤال فيما بعد حلب هو؛ هل تذهب تركيا بعيداً في التفاهم مع روسيا وإيران حول سوريا، وهل يعني ذلك أنها تقطع مع سياستها السابقة تجاه الأزمة السورية، وما تأثير ذلك على علاقتها بحلفائها، وخاصة الولايات المتحدة، وهل يمكنها أن تحافظ على موقع مناسب في الاصطفافات والتحالفات المتصادمة في سوريا، فتضع قدماً هنا وأخرى هناك؟هنا يمكن أن يكون فقه التمكين – المعروف في الدراسات الإسلامية – مدخلاً مناسباً لتفسير جانب من الموضوع، ليس فقط الموقف بين تركيا والولايات المتحدة تجاه سوريا، وإنما موقف مختلف الأطراف والفواعل النشطة في الحدث السوري أيضاً.ويرتكز ذلك على مبدأين رئيسين؛ الأول هو العمل على قاعدة أن السياسة هي “فن الممكن”، وأن مقاصد الشرعة السلطانية والإخوانية تتطلب العمل -ما أمكن- على جلب المكاسب ودرء المخاطر أو المفاسد، والثاني هو العمل في السياسة الخارجية على قاعدة أن “نتعاون على ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما نختلف فيه”، وهذا ما يحكم الموقف التركي من تجاذبات الحدث السوري داخلياً وإقليمياً ودولياً، وخاصة ما بعد تحرير حلب.ومن الواضح أن واشنطن اطّلعت على تعاون أو تفاهم موسكو وطهران وأنقرة، ولم تعترض عليه، بل ربما شجعته، كما لم تجهد كثيراً لإجهاض ما كان في حلب عسكرياً، ولو أنها حاولت منع دمشق وحلفائها من تحويله إلى انتصار سياسي. ومردُّ ذلك إلى أن الرئيس المنتخب دونالد ترامب تخلّص إلى حدٍ ما من عقدة أو متلازمة حلب التي أرَّقَت إدارة سلفه أوباما، وما جرى حتى الآن هو من عمل الإدارة السابقة، ولا يتحمل هو مسؤوليته، وحتى يكون الأمر مطمئناً للجميع فقد بادرت سوريا وحلفاؤها الروس والإيرانيون واللبنانيون إلى السياسة، وقبلوا “تسويات” الأجزاء الأخيرة من هذا الباب، وسارعوا للإعلان عن أن الخطوة التالية لما بعد حلب هي العمل على وقف إطلاق نار شامل والبدء في مسار التفاوض للتوصل إلى حل سياسي.وتدرك واشنطن أن أردوغان عاش على طول الحرب في سوريا خيبة الآلام والأحلام، وقد برز أمامه كابوس كردي ثقيل عليه، وشبه يقين بمؤامرة أو تواطؤ أمريكي مع كرد حزب العمال الكردستاني في شمال سوريا، ولكنها لم تجهد كثيراً لطمأنته، ولم تقف عند مخاوفه وتحفظاته الكردية، وأن أردوغان يحاول موازنة اقتراب واشنطن من الكرد باقترابه هو من موسكو وطهران، وأنه حريص –مع ذلك- على ألا تذهب الأمور بعيداً. وهذا ما يدركه الروس والإيرانيون أيضاً.وهكذا فقد حجزت تركيا لنفسها في تفاهمات حلب ومابعدها موقعاً على جانبي الحرب في سوريا، ويمكن القول إنها تقاتل هنا وهناك، وتتقاتل الجماعات الموالية لها فيما بينها، ويحدث مثل ذلك بينها وبين “داعش” في محيط مدينة الباب، ومن ذلك حادثة إحراق تنظيم “داعش”، الذي تدعمه، لجندييها هناك (22 كانون الأول/ديسمبر الجاري)، قد لا تكون منطقية، ولكنها واقعية على أية حال، و”ثمة (في الحدث السوري) أمور يصعب تصديقها حتى بعد البرهنة عليها”، بتعبير ابن السجزي.في تجاذبات ما بعد حلب، تحاول تركيا بالسياسة أن تتلقف ما خسرته عسكرياً في حلب، وتحويل الفشلَ إلى انتصار، وإعادته سيطرةً عسكريةً مرة أخرى في ريف حلب الشمالي، ولا تزال عينها على مدينة الباب ومنها إلى جغرافيا أوسع، وعلى منطقة آمنة، وهي اللازمة أو الثابت الرئيس في مطامح ومطامع تركيا في سوريا.وقد عملت أنقرة خلال لقاء موسكو على “إدراج” ما حاولت الولايات المتحدة وأوربا القيام به بعد تحرير حلب، وهو إعادة إنتاج منطق جنيف1 ما أمكن ذلك، مؤكدة أن لقاءات الأستانة المزمع إجراؤها في كانون الثاني/يناير القادم ليست بديلاً عن جنيف الذي أعلن دي ميستورا عن جولة جديدة له في شباط/فبراير القادم.الموقف التركي لما بعد حلب يصعب الوثوق به، حتى مع مؤشرات ثبوته أو البرهنة عليه، ذلك أن المخاتلة والمخادعة هي جزء من ديناميات التمكين المذكورة أعلاه، ولأن موقفها جاء تحت تأثير التوافق مع روسيا وإيران، ونتيجة مخاوف عميقة من الأجندة الأميركية في سوريا والمنطقة، والتحولات القاهرة في المشهد السوري ككل، ولكن التقدير الأقرب إلى اليقين هو أن تركيا لن تغادر -في الأمد المنظور- تموضعها الأميركي، ولا رهاناتها العميقة تجاه سوريا، ربما كان حصولها على اعتمادية أفضل لدى واشنطن وتل أبيب هو منتهى أملها ومسعاها.ما بعد حلب هو المواجهة الدبلوماسية إلى جانب الحرب، بل هو استمرار للثانية ولكن بوسائل أخرى، بتعبير كلاوزفيتز، واستمرار للرهان على “فقه التمكين” إياه. هذا خيار أقل تكلفة على المدى المنظور، ولو أن الثقة بالترك لا تزال ضعيفة. ويجب الحذر من أن يصبح التفاهم مع تركيا وحلفائها أكثر تكلفة على المدى البعيد.
عقيل سعيد محفوض
دكتوراه في العلاقات الدولية
#تعز
#جرائم_داعش_في_تعز