لماذا يتجاهل الجيش السوري الرقة ويركز على حلب؟ عبد الباري عطوان يجيب!
اذا صحت التسريبات المتعلقة بإتفاق روسي امريكي جرى التوصل اليه اثناء اللقاءات المكثفة بين خبراء الدولتين العظميين في جنيف، ويتحدث عن خروج المسلحين من شرق حلب بأسلحتهم الخفيفة الى الحدود التركية في غضون 48 ساعة، باستثناء جبهة “احرار الشام” (النصرة) سابقا، التي ليس امام مسلحيها الا وجهة واحدة، وهي منطقة ادلب، فان مثل هذا الاتفاق سيمنع مجزرة كبرى لرجال المعارضة، وآلاف المدنيين الذين بقوا في الاحياء الخاضعة لهم.
نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف نفى التوصل الى هذا الاتفاق الذي سربته ثلاثة مصادر من المعارضة السورية في إسطنبول لوكالة “رويترز″، وقال ان الجانب الأمريكي يطرح شروطا “غير مقبولة”، دون ان يحددها، ولكن من غير المستبعد التوصل الى “حلول وسط” في الساعات المقبلة، لان معظم ركائز هذا الاتفاق المقترح تأتي في اطار التفاهمات الروسية الامريكية المتفق عليها منذ اكثر من عام، مثل الفصل بين المعارضة المعتدلة، والأخرى المتشددة الموضوعة على لائحة الإرهاب الروسية الامريكية، وعلى رأسها جبهة “النصرة”، والإصرار على ذهاب الأخيرة الى منطقة ادلب فقط، او بالأحرى “محرقة” ادلب، التي ستبدأ حتما بعد الانتهاء من حسم ملف حلب، هو تجسيد لهذه التفاهمات.
اذا جرى التوصل الى تسوية حول الاتفاق، او حسم القصف الروسي وتقدم الجيش السوري المتواصل على ارض المعركة عسكريا، فإن استراتيجية الحكومة السورية والحلفاء .. في وضع الثقل العسكري كله خلف معركة استعادة حلب.. ، بدأت تسدل الستار على الفصل النهائي من نجاحاتها، فمن يسيطر على مدينة حلب يسيطر على حوالي 80 بالمئة من المناطق الخصبة الآهلة بالسكان، والمراكز الاقتصادية الرئيسية في البلاد.
مدينة تدمر الاثرية الصحراوية، التي تتبادل السيطرة عليها حاليا “داعش” مع الجيش السوري، لا تشكل قيمة اقتصادية او سياسية كبيرة بالنسبة الى دمشق، فاشهر معالمها غير الاثرية، قصر امير قطر السابق، وسجنها الشهير، ولهذا تحتل مكانة متقدمة على سلم الأولويات، وكذلك الحال بالنسبة الى مدينة الرقة عاصمة “داعش”، فالجيش السوري غير متعجل لاستعادتها، وتكبد خسائر بشرية وعسكرية كبيرة، وطالما ان الولايات المتحدة الامريكية تعتبر تنظيم “داعش” هو الأخطر، والقضاء عليه يحتل قمة سلم أولوياتها، فالتتفضل وتتولى هذه المهمة بنفسها وحلفائها، وبعد القضاء على “داعش” فيها لكل حادث حديث، حسب ما يقول احد المسؤولين السوريين لوكالة “رويترز″.
في الفترة الأخيرة ظهرت في بعض الصحف الغربية والعربية تقارير تتحدث عن احتمالات انطلاق حرب عصابات في سوريا بعد استعادة الجيش السوري لمدينة حلب من قبضة المسلحين، لجر الحكومة السورية الى حرب استنزاف دموية مكلفة، وهذا الاحتمال وارد جدا، وغير مستبعد في المستقبل المنظور، فإستيلاء المسلحين على المدن، وادارتها، كانت من اكبر اخطائها في نظر بعض المحللين الغربيين، ولكن هناك محللين آخرين، يرون ان الدول الداعمة للمعارضة، والعربية منها على وجه الخصوص، قد توقف دعمها او تقليصه الى حدود دنيا، لان حرب العصابات هذه مهما تضمنت من تفجيرات وعمليات انتحارية، سيكون من الصعب عليها النجاح حيث فشلت الاولى التي استمرت ست سنوات ومئات الآلاف من المقاتلين باسقاط النظام، وبالتالي قد تلجأ الأجهزة الأمنية السورية، التي تملك خبرة غير عادية في “الإرهاب المضاد” الى عمليات انتقامية ضد هذه الدول …
بعد احداث حماة الدموية عام 1982، اجرت حركة الاخوان المسلمين التي لعبت الدور الأكبر في المواجهة ضد النظام، مراجعات سياسية متعمقة توصلت خلالها الى قناعة بأن حمل السلاح ضد النظام الذي اثبت قدرة على الصمود ليس مجديا، ويعطي نتائج عكسية ابرزها إعطاء الذرائع له لاستخدام القبضة الحديدية والقمع الدموي، وانخرطت الحركة في مفاوضات سرية مع النظام للمصالحة، وبما يمهد لعودة قيادييها في الخارج، وممارستها للأنشطة الدعوية فقط، ولكن اندلاع الاحتجاجات انطلاقا من درعا في آذار (مارس) عام 2011، صب في مصلحة الجناح المتشدد المطالب بتسليح “الثورة”، تحت شعار حماية المتظاهرين السلميين.
استعادة الجيش السوري لمدينة حلب، وانهاء وجود المقاتلين في الاحياء المتبقية منها، سواء من خلال اتفاق امريكي روسي، او تقدم الجيش السوري والسيطرة عليها بالتالي، ستعزز سلطة الرئيس بشار الأسد ومكانته في أوساط داعميه وانصاره، وقد تجبر معارضيه، والعرب والأتراك منهم خاصة، الى مراجعة مواقفهم تجاهه، وتخفيف او انهاء المقاطعة لحكمه انطلاقا من قاعدة الواقعية السياسية “Real Politics”.
الدعوات المتصاعدة في أوساط قطاع عريض من السياسيين في الاردن، وآخرهم الوزير والبرلماني السابق محمد داووية بضرورة توجيه الدعوة رسميا الى الحكومة السورية للمشاركة في القمة العربية التي ستستضيفها العاصمة عمان في شهر آذار (مارس) المقبل قد تصب في خانة المراجعات التي ذكرناها آنفا، ولا نستبعد ان تكون الدولة الأردنية “العميقة” هي التي تقف خلف هذه الدعوات كنوع من بالونات الاختبار للتمهيد لقرار مفاجيء في هذا الصدد.
الأردن فقد الامل كليا من وصول المساعدات المالية الخليجية التي كان يعول عليها لمواجهة ازماته الاقتصادية المتفاقمة، فالمنحة الخليجية ومقدارها 5 سنوات، وقيمتها مليار دولار كل عام تنتهي بنهاية العام الحالي، ولا توجد أي مؤشرات على إمكانية تجديدها، وربما تفكر “المؤسسة” الاردنية الحاكمة بالبحث عن بدائل أخرى في دول الجوار، وتطبيع العلاقات مع سوريا، وربما ايران أيضا، حيث الأسواق والنفط، والسياحة الدينية.
حلب ستشكل نهاية مرحلة وبداية أخرى في التاريخ السوري الحديث، وربما المنطقة الشرق أوسطية بأسرها، وهناك الكثير الذي يمكن قوله حول هوية المرحلة الجديدة ومتطلباتها، ولكن سنعبر ذلك الجسر عندما نصل اليه.
عبد الباري عطوان / راي اليوم