تعز العز

منكم لله خرّبتم البلد

“منكم لله خرّبتم البلد” هي عبارة كان دائماً يردّدها المُناهضون لثورة يناير ممن كانوا يُسمّون بـ”الفلول”، بمعنى فلول النظام السابق، أو المستفيدين مادياً واجتماعياً من نظام مبارك. مما لا شك فيه أنه كان لنظام مبارك فئة كبيرة من المُنتفعين، شأنه في ذلك شأن أي نظام فاسد وديكتاتوري يرغب في تثبيت أركان مُلكه.

حقيقة، إذا كنت ترغب في تثبيت أركان حُكم شمولي فاسد، فلا يمكنك فقط الاعتماد على إرهاب المواطنين والتنكيل بمُعارضيك كي تجعلهم عِبرة لغيرهم ممن قد تراوده نفسه لإبداء رأي مخالف لحُكمك. هذا أسلوب قد ينجح على المدى القصير، لكن استمراره قد يكون ثمنه لا التضحية باستقرار حُكمك فحسب، بل قد ينتهي هذا النمط من الحُكم إلى التضحية بالبلاد كلها وتماسكها، حيث أن الطبيعة البشرية لا تصمد كثيراً تحت القهر المرّ الذي لا يُحصّلون من وراء الصبر عليه أية مصلحة أو منفعة، أو كما يُقال بالعامية المصرية: “كله ضرب ضرب.. مافيش شتيمة”.كما أنه لا يمكنك شراء مؤيّديك بشكل مباشر بطريق العَرض والطلب. قد يحدث هذا، وقد ينجح، لكنه سيُفتضح في نهاية الأمر، لا لشيء إلا بسبب فجاجته، وقد تختلف أنت ومن اشتريتهم على السعر فيذهب أحدهم ليُسرّب معلومات عن عمليات شراء ذِمم الناس وبيعهم، مما يضرب في قلب مصداقيتك الأمر الذي يهوّن من شأنك في أعين الناس، فيبدأون بالتجرّؤ عليك، إذ تبين لهم ألا مؤيّدين لك، وأن الأمر كله تمثيلية، وأنك حقيقة وحيد، ليس لديك إلا آلات القمع التي يمكن أن تقتل بعضهم لكنها لن تقتلهم كلهم.لذلك، فإن الديكتاتوريات المُخضرمة، تعمد إلى خلق شريحة مجتمعية تستفيد من أنماط حكمهم، شريحة كاملة، وكبيرة، لا يتم شراؤها بالإنفاق المباشر عليها والتسليم والاستلام ولكن من خلال سياسات تخدم مصالحهم، أو تمنحهم فرصاً للعيش في رفاهية، وحين يغطّ الإنسان في النعيم، فإنه من الطبيعي أن ينسى الأغلبية التي تتعثر في الفقر  وسوء المعيشة.تمكّن نظام مبارك الفاسد من خلق هذه الفئة التي لازالت تتحسّر على أيام حُكمه حتى الآن، بالرغم من فشل ثورة يناير 2011، ولفظها أنفاسها الأخيرة فإن هذه الفئة مازالت لا تهاب حرمة الموت وتلعن المرحومة جزماً منهم بإنها من أدّت إلى تدهور أحوالهم هم… وبالطبع هم لا يهتّمون بأحوال غيرهم التي كانت مُتدهورة ومازالت في تدهور مُطّرد.امممممم… احم.. في الواقع، إنني أدخل بهذه المُقدّمة لأنني لا أعرف تحديداً كيف أبدأ الحديث عن الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يعاني منها المواطن المصري الآن، والتي ستزداد سوءاً مع الاستمرار في برنامج صندوق النقد الدولي.في البداية كان رفع الدعم جزئياً عن أسعار الوقود، ثم رفع الدعم جزئياً عن أسعار الكهرباء، ثم الاقتراض والاقتراض والاقتراض ثم مزيد من الاقتراض حتى أصبحنا نرزح تحت نَير الديون التي قد تؤثّر سلبا على القرار السياسي في مصر. وعلى عكس الجميع، فإنني لا أحمل  هم سداد الديون عملاً بالمثل المصري “أيش ياخد الريح من البلاط”؟ نعم ليس لدينا ما نُسدّد به هذه الديون في المستقبل… وعلى مَن أقرضنا أن يشكونا في محكمة الأسرة. نجيب لهم منين؟كي أكون عادلة سأطرح وجهة نظر المؤيّدين للاقتراض من صندوق النقد الدولي والالتزام بشروط القرض وبرنامجه، يقول المؤيّدون:* حقيقة أننا اقترضنا من دول الخليج أموالاً أكثر بكثير من القدر الذي يقدّمه لنا قرض الصندوق لكن الفكرة ليست في حجم القرض وإنما تكمن أهمية القرض في كفاءة برنامجه الذي سينتشل اقتصادنا من وحل التردّي.* القرض سيمنح مصر ثقة عالمية تجذب الاستثمار الأجنبي، ومن ثم، فإنه بالتدرّج سيستعيد الجنيه المصري عافيته.* القرض سيوسّع من رقعة الصادرات مع انخفاض سعر الجنيه لإنها تتمتّع بأسعار مُنافِسة بينما سيقلّص الواردات التي تُكبّد الدولة نفقات بالعملة الصعبة.* تعويم الجنيه المصري وهو إجراء اتّخذته السلطات تنفيذاً لشروط صندوق النقد سيخفِض من قيمة الدَين الخارجي المصري.* على الشعب أن يتحمّل قليلاً حتى نمرّ من عُنق الزجاجة، وبتطبيق برنامج الصندوق سوف يتم إنعاش الاقتصاد المصري وستمر هذه المرحلة الصعبة وسينعم المصريون بالرخاء والرفاهية والسعادة والبُشر والحبور… ونأكل ونشرب ونسافر  ونستمتع بالحياة.. ونبيع ونكسب. هذه الحيثيات استمدّها المؤيّدون من خطاب الصندوق ذاته. بقول آخر، حين روّج الصندوق لبيعته قام بسرد هذه الحيثيات حول أهمية القرض، وأهمية رفع الدعم، وأهمية تعويم الجنيه المصري وطرحه في الأسواق للعَرض والطلب، وأهمية الاقتراض من مؤسسات دولية أخرى إلى جانب الصندوق. والله حيثيات جميلة جداً… تمام.طيّب وماذا نحن فاعلون الآن؟ أقصد بـ”نحن”: الطبقة المتوسّطة، والطبقة المتوسّطة الصغيرة، والطبقات الفقيرة؟هل نحن مضّطرون بالفعل للجوء لكل هذا الاقتراض؟ إذا كان ولابدّ من التقشّف وتحمّل شظف المعيش، فلماذا لا تقوم الدولة بخطّة مشروع قومي حقيقي، وليس وهمياً كتفريعة قناة السويس التي شربت مليارات التبرّعات من المصريين ولم تعد عليهم بشيء البتّة، لرفع كفاءة الإنتاج والزراعة من دون الاضطرار إلى اللجوء لقرض الصندق الذي يعترف مؤيّدوه بأنه ضئيل القيمة لكنهم يقولون بأن “مش كل حاجة الفلوس.. المهم البرنامج”… يا سلام؟ طب ما ننزل البرنامج من على النت يعني.. ولا داعي لتكبيلنا بمزيد من الديون وفوائدها.بدأت البيوت المصرية التي تعيش “بالستر” استعدادات مُكثّفة للدخول في أزمات في الغذاء والوقود والطاقة، بسبب إصرار الدولة على الاقتراض من صندوق النقد الدولي، فقط لتُحسّن صورتها العالمية!متى دخل صندوق النقد الدولي أي بلد وأتت برامجه بالنتائج المنشودة؟ متى حدث ذلك؟ فلنذكر الأرجنتين على سبيل المثال لا الحصر.لماذا المُجازفة بمُقدّرات الأُسَر المصرية ومصيرها ووضع كل رهاناتنا على حصان أثبت أنه خاسر في تجارب دول سابقة؟لماذا لا توجد إرادة سياسية، كالتي وجِدت في دول أخرى كانت تحت الحصار وتمكّنت من خلق اقتصاد مُنافِس من دون اللجوء إلى مُساعدات خارجية؟المشكلة في المجتمع المصري لا تكمن في تحمّل المواطن المصري أزمة اقتصادية طالما تحمّل مثيلاتها وأكبر منها، وعيب على نساء النوادي اللاتي لا يخرجن سوى للذهاب إلى الكوافير أو ممارسة الرياضة أو طبيب التجميل أن يجلسن على شبكات التواصل الاجتماعي ليشرحن للمصريين كيف يمكنهم أن يقسّموا الرغيف إلى أربعة أرباع، وكيف يمكنهم تقطيع الدجاجة إلى ثمانية أجزاء، وكيف يمكنهم “كحت” أواني الطعام وأكل ما تبقى، وعدم إلقاء “اللحوم” في سلّة المهملات!!!!! احترمن أنفسكّن. لا أحد من الذين يكتوون بنار الأسعار يحتاج إلى نصائحكن، في مصر هناك مَن يشتري عظم المواشي ليطهو به طعامه، وفي مصر مَن يجمع فتات الخبز ويضعه في ماء وسكر ليطعم به أطفاله، ولم يُعرف عن المصريين إلقاء اللحوم في سلّة المهملات، إذا كنتن تفعلن أنتن ذلك لإنكن كما يقول المثل المصري “شبعة من بعد جوعة” أو كما هو في التعبير الفرنسيnouveau richeفإن هذا المسلك ليس دارجاً في الثقافة المصرية.تحمّل ويتحمّل المواطن المصري أزمات اقتصادية كثيرة، لكنه ليس على استعداد لتحمّل هذه الأزمة خدمة للنظام العالمي. صندوق النقد الدولي ببساطة تاجر، يبيع بضاعته، ولا يهتم بما ستعود به بضاعته على المُشتري، خاصة وأنه لم يتحمّل تبعات الأزمات التي تسبّب فيها في دول أخرى. مَن حاسَب صندوق النقد على انهيار اقتصاديات الدول التي دخل فيها ببرامجه؟ثم إن المؤيّدين للقرض، يدعمون الفكرة انطلاقاً من تأييدهم المُطلَق للنظام، ولو أن النظام استيقظ ذات صباح يسبّ ويلعن القرض، فإنهم سينشدون خلفه أنشودته. طيب.. أليس هذا هو النظام الذي طالما حدّثنا عن المؤامرات الخارجية، واستهداف الغرب لمصر، وعمالة وخيانة كل مواطن يتعامل مع أية مؤسسة دولية؟ أليس هذا هو النظام الذي أمطر مؤيّدوه وإعلامّيوه منظمة العفو الدولية بالاتهام وأقذع السباب لإن المنظمة كانت قد ذكرت في تقرير لها أن مصر فيها انتهاكات بشعة لحقوق الإنسان؟ أليس هذا هو النظام الذي يتحدّث رأسه علانية عن حروب الجيل الرابع وأهل الشر من الخارج والداخل الذين يُحيكون المؤامرات لمصر؟هكذا وفجأة أصبح برنامج صندوق النقد الدولي، الغربي، الخارجي، العميل، هو النموذج الأمثل لعلاج أمراض الاقتصاد المصري؟لو أن الأزمة الاقتصادية كانت وسيلة للنهوض باقتصاد وطني حقيقي، وبناء للصناعة والزراعة المصرية مثلاً، أو لمشروع قومي تحتاجه البلاد وسوف يعود عليها بالخير، لا لمُجرّد “رفع الروح المعنوية لدى المواطنين”، لتحمّلنا جميعنا كما تحمّلنا قبل ذلك مراراً وتكراراً، لكن أن تصبّحونا بمؤامرات الغرب الخارجية ثم تمسّونا بالاقتراض من هذا الغرب المُتآمر بل والرضوخ لكافة شروطة بلا تردّد! فلماذا علينا أن نتحمّل أشياء لا نفهم تبعاتها ونتائجها؟وأقول اليوم للمؤيّدين – الذين تبيّن من خلال فضيحة صحفية أنهم يتقاضون أموالاً من قوت الشعب وضرائبه لكتابة هرائهم على الشبكة العنكبوتية – أن الثورة قامت لتغيير أوضاع سياسية واقتصادية ندفع ثمنها الآن، ولو أن الثورة كانت أخذت مداها لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم، ولو أنكم صمتم وأقلعتم عن النفاق وتقاضي الأموال مقابل نفاقكم لربما تراجعت السلطة عن قرارات قد تندم عليها في المستقبل.

حقا: منكم لله خرّبتم البلد.

الكاتبة والناشطة المصرية/نوارة نجم
 %d8%a7%d8%b4%d8%aa%d8%b1%d9%83-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%aa%d9%84%d8%ac%d8%b1%d8%a7%d9%85