المصالح و”اللوبيات” في صناعة القرار الأميريكي
آليات صناعة القرار في الولايات المتحدة الأميركية هي آليات دستورية بحسب التثقيف الرسمي الذي يُدرّس في المدارس والجامعات، وكما يتداوله معظم مراكز البحث والدراسات الحقوقية والسياسية في داخل الولايات المتحدة وخارجها. فهو بحسب الثقافة السياسية الأميركية يستند إلى آليات ثنائية في النظام السياسي بين صلاحيات الرئيس وصلاحيات الكونغرس وفق دستور التأسيس العام 1789 وتعديلاته العام 1992.
لكنه نظام رئاسي في إطاره العام يتمتع فيه الرئيس بتفويض في الانتخابات المباشرة، على الرغم من قانون انتخابات متداخل بين كبار الناخبين وصغارهم. كما يعيّن الرئيس الحكومة وإدارتها ويقرر من حيث المبدأ السياسات الداخلية والخارجية. وهو القائد العام للقوات المسلّحة الذي يضع في يده “شيفرة” استخدام السلاح النووي، والمسؤول عن إعلان الحرب بموافقة الكونغرس ويمثل البلاد ويعقد الاتفاقيات الخارجية وغيرها. لكن صلاحيات الرئيس في الدستور التأسيسي وتعديلاته مقيّدة بصلاحيات الكونغرس في غرفتيْ مجلس الشيوخ ومجلس النواب. وفي حقيقة الأمر إن الكونغرس هو المؤسسة الدستورية الأولى المستمدّة من تاريخ الولايات المتحدة الأميركية في دور الكونغرس القاري الأول المنعقد في فيلادلفيا العام 1774، وإعلان الاستقلال عن بريطانيا الأم العام 1776. واحتفظ الكونغرس لذلك بصلاحيات تقريرية بموازاة صلاحيات الرئيس وإدارته أهمها توفير سبل الدفاع المشترك وما يُطلق عليه الصالح العام، والموافقة على إعلان الحرب وتنظيم التجارة مع الدول الأجنبية، ووضع قوانين الإدارة وتنظيم القوات المسلّحة.. وربما لولا “كاريزما” شخصيات ما يُطلق عليهم وصف “الآباء المؤسسين” مثل جورج واشنطن وابراهام لينكولن الذين حجزوا مواقع المكانة والنفوذ في الرئاسة، لكانت السلطة للكونغرس في نظام الحكم وكانت صلاحيات الرئيس شرفية كما يستنتج المؤرخ الأميركي المرموق هوارد زنّ. ففي المحصلة استقرّ نظام الحكم الثنائي في الولايات المتحدة على قاسم مشترك بين تيار “ألكسندر هاملتون” الداعي لمركزية السلطة وتيار “توماس جيفرسون” الداعي إلى توسيع الصلاحيات اللامركزية. خلف هذا التثقيف الدستوري في توزيع الصلاحيات، تكمن مراكز قوى في داخل الإدارة وقوى ضغط أخرى على الإدارة والحكم في صناعة القرار السياسي وهو ما يصفه البعض بأنه حكومة خفية تتألف أركانها من وزارتي الدفاع والخارجية ووكالات المخابرات، ومن قطاعي المال والأعمال في شارع “وول ستريت” خارج الإدارة، فضلاً عن مجلس الأمن القومي. فوزير الخارجية على سبيل المثال لديه 25 ألف موظف تحت رئاسته ويضع تحت أمرته وكالات ذات نفوذ وتأثير كوكالة التنمية الدولية التي تنظم برامج المساعدات للدول الأجنبية، ووكالة الاستعلامات التي تقوم بتقديم مساعدات للتبشير بديمقراطية الولايات المتحدة وقيَمها وثقافتها، ووكالة الرقابة على التسلّح الدولي وهي الجهاز المسؤول عن اتفاقيات الحدّ من التسلّح. ومن حيث الصلاحيات يُفترض خضوع الوزارة إلى صلاحيات الرئيس، لكن دور وزير الخارجية محوري في صناعة القرار بما يتجاوز الرئيس أحياناً كما كان “جون فوستر دالاس” في عهد الرئيس أيزنهاور أو كما كان هنري كيسنجر تحت رئاسة نيكسون. غير أن ترومان همّش وزارة الخارجية في اعتماده على المستشارين وهو حال جورج بوش الذي اعتمد على مستشارين من رموز المحافظين الجدد في وزارة لم تتجاوز صلاحية وزيرها كولن باول أكثر من صلاحية موظف مخدوع بحسب وصفه لدوره في تغطية غزو العراق. ولا تقل وزارة الدفاع عن الخارجية نفوذاً ومكانة في صناعة القرار السياسي الأميركي، بل قد تبزّها شأواً في الملفات المتعلقة بسياسات واستراتيجيات الحرب وحماية المصالح الاميركية في العالم. فهي المعنية بأهم جهاز للتوسّع الأمبراطوري الأميركي، اعتماداً على آلة الحرب الأميركية في قيادة الجيوش ورؤساء الأركان. وهي أهم مموّل للصناعات العسكرية وشركات السلاح التي تشكل مع شركات النفط ثقلين حاسمين في صناعة القرار الخارجي الأميركي. ويضم مجلس الأمن القومي الرئيس ونائبه ووزير الخارجية ومدير المخابرات وأعداداً من المستشارين لكل منهم، لكن وزارة الدفاع ورئاسة الأركان هي العامل الراجح في التأثير على اتخاذ القرار، كما استند باراك أوباما للتراجع عن العدوان على سوريا بدعوى السلاح الكيماوي. قد لا تكفي الثقافة السياسية الرسمية الأميركية أو النصوص الدستورية في قراءة آليات نظام الحكم وصناعة القرار الأميركي. فالولايات المتحدة محكومة بتاريخها قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها إلى اليوم. وقد تولّدت في هذا التاريخ لأسباب متشعّبة ما يُتفق على تسميته “الحلم الأميركي” الذي يتجلّى بنزعة التوسّع الأمبراطوري (الامبريالي) في العالم، أساساً للصناعات العملاقة والشركات المهولة الضخامة وأساساً أيضاً للبذخ والتبذير في حجم الاستهلاك الداخلي. كما يتجلّى في شهيّة التغوّل لاستحواذ الثروات الكونية وسيطرة الهيبة في الحرب والإيديولوجيا. فالطهرانية (بوريتانيسم) التي تحرص على نشرها الثقافة الأميركية في العالم ومنها مقولات الدفاع عن خير العالم وحقوق الانسان والديمقراطية بنموذجها الأميركي وغيرها، هي في نهاية المطاف قيَم عمومية في معرض تعزيز المصالح الأميركية المتوحّشة بلغة مهذّبة. وفي هذا الإطار تزعم الولايات المتحدة على مرّ ثقافتها التاريخية المعزّزة بإبادة السكان الأصليين والاستيلاء على أراضيهم وموروثهم، أنها موكلة من السماء للقضاء على “همجية” السكان الأصليين وبناء الحضارة الانسانية. ولا تزال هذه الثقافة حاضرة في صدارة التوافق الأميركي العام على التبشير بأيديولوجيا أميركية بمثابة معتقدات دينية تلقي على عاتقها ما تسميه “تحمُّل المسؤولية الأخلاقية” في الكون. ولا يخفي هذا التبشير ما يخدم المصالح الأميركية وبحدود تعزيز هذه المصالح في محاربة الاستبداد ونشر الحريات ولاسيما الحرية الفردية وحرية التنافس وحريات السوق والتجارة والمال… وصولاً إلى ما هو راهن فيما تسميه “محاربة الارهاب”. ولعلّ حرية التعبير هي أكثر مباهاة الثقافة الأميركية وقد يرقى تعظيم هذا التباهي إلى مصاف القيَم الإنسانية المطلقة بأدلة وبراهين في النصوص الدستورية وفي أدبيات الثقافة السائدة، لكنها في مجريات الوقائع السياسية الأميركية هي حرية للتعبير عن مثالب قيَم منظومة الحكم والنموذج الأميركي، أو أبعدها في التسامح بما لا يجرح النموذج. فما قامت به المكارثية في بداية خمسينات القرن الماضي (جوزيف مكارثي وهو قاضٍ) كان عقاباً جماعياً بالسجن وطرد الآلاف من العمل باتهام على شبهة “معتقدات ضالة” طالت مارتن لوثر كينغ وألبرت أنشتاين وتشارلي شابلن لخروجهم عن النص في النقد. وليست المكارثية حالة عرَضية في الولايات المتحدة إنما تأخذ أشكالاً أكثر حذاقة في قوانين أمنية بدعوى “حماية الصالح العام”، مثلما تتعرّض حملات الناشطين في جمعيات “احتلوا وول ستريت” أو مقاطعة اسرائيل ومناهضة الحرب ومواجهة الإسلاموفوبيا وغيرها. وقد تأخذ أشكال حجر المقالات ونشر الكتب والطرد من الوظائف والجامعات كما يتعرّض كثيرون ليسوا بالضرورة ضد النموذج الأميركي منهم “ستيفن والت” استاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد و”جون ميرشيامر” أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، بسبب رأيهما في كتاب يتعرّض بالنقد للسياسة الخارجية الأميركية ومصلحة إسرائيل. النظر في قمة الهرم السياسي لقراءة منظومة الحكم وصناعة القرار، يُغفل إلى حدٍّ بعيد مصالح القوى النافذة في المجتمعات الأميركية وتأثيرها في بناء الهرم من قاعدته إلى هرمه. فهذه المجتمعات هي بأصلها جماعات مهاجرة استيطانية متناحرة من المغامرين البيض الذين دفعت بهم بريطانيا والدول الأوروبية للغزو والنهب والقرصنة واصطياد العبيد. فنشأت “القارة الجديدة” من رماد قارتيْ أفريقيا والشعوب الأصلية (بول لوران، أصول وأسس الولايات المتحدة الأميركية، منشورات هاشيت 1850، وجامعة كيبيك 2009). ولم يغيّر اتحاد هذه الجماعات فيما بينها باستقلالها عن بريطانيا العام 1776 كثيراً من طبائع الأسس المؤسّسَة، فبقي إلى اليوم ما تتصف به المجتمعات الأميركية بأنها أقرب إلى اتحاد الجماعات. وهو ما يجري تمجيده في الثقافة السياسية الأميركية كمنارة هدي لتعايش الثقافات والاختلاف والتعدد والتسامح وما إلى ذلك من عموميات يُقصد بها تعظيم النموذج كخير الإنسانية، فيما هي خصوصية جماعات الاستيطان الأبيض فيما بينها ولا تتعداها إلى المجتمعات الأخرى أبعد من الولايات المتحدة، كما تدل الغطرسة الأميركية المعادية لجوهر اختلاف الثقافات الكونية وتعدّد أنماط الحياة الغنية بالثروة المعرفية المتراكمة لكنها غير قابلة للربح المالي. فإتحاد الجماعات في الولايات المتحدة يتداخل في هرم المجتمعات الأميركية من قاعدته إلى رأس الهرم السياسي بحيث يتشكل من جماعات ضغط متشعبة في صناعة القرار الذي ينتج عن محصلة نفوذ القوى الضاغطة. أكثر ما يذيع صيته من جماعات الضغط الأميركية في المنطقة العربية والاسلامية هو “اللوبي الصهيوني” الذي تمثله “الأيباك”، نظراً لأثرها السياسي في صناعة قرار الإدارة الأميركية لمصلحة اسرائيل. لكن “الإيباك” ليست شواذاً وليست أقوى “اللوبيات” وأكثرها نفوذاً في صناعة القرار الأميركي العام مقارنة بجماعات الضغط في شركات النفط والتسلّح والغذاء أو مقارنة بالإعلام والكنائس وبيوت الخبرة والبنوك والمحاماة وغيرها. فهذه القوى الضاغطة ليست دخيلة من خارج منظومة صناعة القرار إنما هي عصب البنية في صناعة القرار التي يقوم عليها نموذج الديمقراطية الأميركية، ويقوم التشريع الأميركي بقوننة عملها وشرعنته بل يعظّمه ويقدسه على ما يسميه “الآباء المؤسسون” السعادة. ففي عهد رونالد ريغان تكلف فريق بحث بدراسة عن مستقبل أميركا، ومما خلص إليه البحث أن عضو الكونغرس يتلقى راتباً من الحكومة الفيدرالية إضافة لست رواتب تدفعها جماعات الضغط لتمرير أو تعطيل مشاريع قوانين في الكونغرس. فهذه “اللوبيات” اعتادت طويلاً الذهاب إلى المؤسسات الحكومية للضغط المألوف عليها بأشكال شتى، ويتجاوز ضغطها المؤسسات الحكومية الأميركية إلى المؤسسات الدولية وهيئات الأمم المتحدة وإلى المؤسسات الأوروبية وغيرها. فعاصمة الاتحاد الأوروبي بروكسيل هي ثاني عاصمة “لوبيات” أميركية بعد واشنطن بحوالي 3000 من الجماعات التي نجحت مؤخراً بعد جهد جهيد وطويل بتمرير مشاريع “التجارة الحرّة عبر الأطلسي” والشراكات الاستراتيجية. وتضم جماعات الضغط الأميركية في بروكسيل 145 من أكبر الشركات الأميركية في العالم التي تشمل صناعات كشركة بوينغ وجنرال موتورز وبنوك وأعمال مونسنتو وماكدونالد والبنوك والانترنت…. وهي تستعين بجماعات ضغط أخرى في بيوت الخبرة ومراكز الأبحاث والطاولات المستديرة و”ثينك تانك”….. (برتران بادي، الانقلاب العالمي، منشورات العلوم السياسية، باريس، 1999). لكن المتغير الثقيل الذي أدّى إلى تعزيز نفوذ جماعات الضغط هو أنها أصبحت أقوى من الإدارات الحكومية في صناعة القرار بحيث بات رجال الطبقة السياسية يلجأون إليها. وباتت مراكز قوى أكثر فعالية في صناعة القرار من الإدارات الحكومية. (جايمس روزنو، اضطراب عالمي، منشورات برنستون، 1999). وربما لا تخلو جماعة ضغط من مسؤول حكومي سابق أو جنرال أمني وعسكري متقاعد، وقلما تخلو إدارة حكومية في أعلى المستويات والأجهزة من مستشارين كبار موظفين لدى جماعات الضغط. فمطبخ القرار ينتقل في مستويات متعددة من الحكومات ومن الضغط المباشر للصناعات والشركات الكبرى والمال والأعمال، إلى خبراء ومستشارين ومحامين تستعين بخدماتهم الإدارات الحكومية وجماعات الضغط الاقتصادية والمالية وهو ما بات يُعرف ببنوك التفكير. فهذه البنوك تنمو باضطراد في مؤسسات وشركات كبرى خاصة بها كبيوت الخبرة ومؤسسات التحكيم وإدارة النزاعات والمحامات والاستشارات الحكومية والقانونية… لكنها تنمو أيضاً في المجالس الحكومية التي تضم المؤسسات الصناعية والمؤسسات الإعلامية والقانونية والمصرفية كمجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة وغيره. وفي هذا المطبخ يزداد نفوذ وتأثير مراكز الأبحاث الموكلة بنشر الثقافة والمصالح الأميركية وأهمها: مؤسسة بروكنجر، معهد هيدسون، راند أنترناشيونال وكوربورايشن، أميركان انتربرايز، معهد هيدسون، سنتر فور ستراتيجيك… إلخ. إن بنوك التفكير هذه تضع جهودها ونفوذها لتسيير إدارة الحكم السياسي وأعمال القوى الاقتصادية النافذة بالسطوة والمال، لكنها زرعت بذور التهميش وتوتير الغرائز البدائية أمام المتضررين من قبضتها الحديدية المهدِّدة لحفظ البقاء. ومن هذه البذور تنمو حلول أزمات النموذج العنيفة بمساعٍ شعبوية يمينية متطرفة وعنصرية بيضاء على ما تشهد أوروبا والولايات المتحدة. فالانقسام الحاد بين كلنتون وترامب هي انعكاس لانقسام أكثر حدّة بين حكم جماعات الضغط والمصالح المؤيدة بمعظمها لكلنتون وبين جماعات ضغط أخرى على هامش الحكم يتعاظم تأثيرها في العودة إلى أصول ثقافة المستوطنين البيضأء. لكنها الوجه العاري الأكثر تعبيراً عن وحشية ثقافة النموذج.
الكاتب: قاسم عز الدين