العروبة؛ خيار استراتيجي أم واقع عِرقي؟
تجربة البشر عبر التاريخ تقول أن التجارب الوحدوية التي قامت على أساس الدين أو الطائفة أو العرق انتهت إلى انهيار محتوم وطواها الزمن بسرعة نسبيا! بينما نجحت واستمرت التجارب التي قامت على خيار استراتيجي مؤسس على المصلحة المشتركة والخطر المشترك! فهل قوميتنا العربية وفقا لفكرنا القومي العربي المعاصر ترتكز على العروبة كخيار استراتيجي يدعم المصالح المشتركة للشعوب العربية ويدفع عنها الخطر المشترك، أم على نزعة عرقية؟
كثيرا ما تحدثنا أدبياتنا الوحدوية عن وحدة اللسان والتاريخ والدين والعرق كمقومات للوحدة، وهي كذلك فعلا مقومات لا يُنكر أحدٌ دورها ، ولكن هل هي المقومات والبواعث الأساسية لتحقيقها؟ وهل تضمن بقاءها لو تحققت؟
نبدأ بما تردده أدبياتنا كدوافع ومقومات وحودية من اللغة والتاريخ المشترك والدين والعرق! فنحن نرى فيها “مسوغات” للوحدة وليست “مقومات” أو دوافع وبواعث بالمعنى المفهوم!! فهي مسوغات بمعنى أنها تدعم الوحدة لو تحققت ولكنها ليست دوافعا تحرك الشعوب باتجاهها وليست مقومات تضمن بقاءها لو قامت! أما اللغة؛ فواقع البشر اليوم يقول أن اللغة الألمانية لم تحافظ على وحدة الشعوب الناطقة بها، ومثلهاالإسبانية والإنجليزية، وأما التاريخ المشترك؛ فبقدر ما ينتج ثقافة مشتركة قد تؤسس لتجارب وحدوية، ينتج معها خلافات وصراعات تحتية تعيق الوحدة وقد تقوضها عندما تقوم، لهذا فالجغرافيا المتصلة بأبعادها المباشرة هي مقومٌ وحدويٌ أرجح من التاريخ بأبعاده المعقدة، لأنها الأكثر تعبيرا عن المصالح والتهديدات المشتركة. أما الدين (ونقصد هنا دين الأغلبية العددية) فقد كانت أوروبا ذات يوم تسمى “كريستيندوم/ العالم المسيحي”، ولم يمنع ذلك من قيام حروب قطرية ثم حروب عالمية بين شعوب ذياك العالم المسيحي المفترض، وصراعات الأمس واليوم فيما نطلق عليه العالم الإسلامي بكل حدتها ودمويتها دليل مضاف بسجل البشر. يتبقى لنا العرق إذا، وهنا يجب أن نسأل؛ هل العرب حالة تجانس عرقي بالأساس، لنناقش تأسيسا عليها أثر العرق على إمكانات الوحدة؟
العروبة خيار استراتيجي
تغير مفهوم الأعراق البشرية بتطور المعرفة عبر القرون، فبينما كان للغة دور كبير في تعريف التمايز العرقي في القرن السابع عشر، فمع القرن التاسع عشر صار التقسيم العرقي للبشر يقوم بالأساس على التمايز الجيني، فهل العرب أمة متجانسة جينيا؟ هناك في علم الجينات ما يعرف باسم “الممايز العربي” وهو الجين المعروف باسم “هابلوجروب جي-١”، والخريطة الجغرافية التي يتواجد في سكانها هذا الجين تعكس شبه تطابق مع خريطة العالم العربي، لكن نسبة شيوعه فيما عدا الجزيرة العربية لا تتجاوز ٣٠%، ولا ترتفع معدلاته بصورة تدل على التجانس العرقي إلا في جنوب اليمن (العرب العاربة)، وهذا منطقي لأن التاريخ نفسه يحدثنا عن الاختلاط الجيني الكبير في تلك المنطقة من قلب العالم بين مختلف الأعراق والأجناس. فلو كان لدينا رابط عرقي محدود فليس لدينا نقاء عرقي يكفي لنؤسس عليه رابطا وحدويا.
تبقى لنا وحدة المصير والمصالح المشتركة، وأنا أزعم أن القومية العربية بقراءتها المعاصرة لم تؤسس أبدا على العرق أو اللغة أو الدين قدر ما تأسست كاختيار استراتيجي مؤسس على الاتصال الجغرافي وما ينتج عنه من وحدة المصير لكل من يعيش فوق أرضنا من عرب وأكراد وبربر، من مسلمين سنة وشيعة وعلويين ودروز ومسيحيين أرثوذكس وموارنة وسريان وغيرهم. ولهذا غرس الاستعمار في جسدنا الكيان الصهيوني ليقطع الاتصال الجغرافي بنصل مسموم. فنظرية الدوائر الثلاث في الفكر الناصري تؤيد عدم النظرة العرقية للقومية العربية، إنها قومية “اختيار” استراتيجي وليست قومية قدرية جينية.
تعريف العروبة كاختيار استراتيجي مؤسس على وحدة المصير داخل إطار الجغرافيا يخلصنا في واقعنا المعاصر من إشكاليات عدة، أهمها إمكانية نفي الهوية العربية عن دول تعمل طوال الوقت وعبر القرنين العشرين والحادي والعشرين ضد المصالح العربية وضد مفهوم وحدة المصير، هؤلاء ليسوا عربا طالما بقوا على غيهم وضلالهم، وطالما لم يتبنوا الاختيار الاستراتيجي الذي يقضي بالعمل العربي المشترك لمواجهة التحديات.
ولا بد ايضا من نفي العروبة عمن اختار خيارات مناقضة، ورجح كفة الانتماء الديني على الانتماء للجغرافيا العربية فصار يجاهر بأن المسلم الماليزي أقرب صلة به من المسيحي السوري، لا بأس فهذا اختياره، لكنه يخرج به من الخيار الاستراتيجي العربي لخيارات أخرى! ومن ثم يخرج من الوصف العروبي لأوصاف اختارها لنفسه!
فتعريف العروبة كخيار استراتيجي مؤسس على وحدة المصير في إطار الجغرافيا! هي نقطة الانطلاق القويمة للفكر القومي العربي المعاصر برأينا، والتي تجعل العروبة قادرة على تحقيق الوحدة ذات يوم في المستقبل، كما تجعلها قادرة على الحفاظ على تلكم الوحدة!
*العهد
أشترك على قناة أخبار تعز للتلغرام وكن أول من يعلم الخبر فور حدوثه انقر هنا✅