من نكبة إقامة ’إسرائيل’.. الى نكبة تحويلها حليفًا
جهاد حيدر
ليست كلمة “النكبة” مجرد مفردة تهدف للاشارة الى حدث جرى في زمان ومكان معينين. بل هي مفهوم ينطوي على مخزون ثقافي ومدلول سياسي يتصل بأطراف الحدث وزمانه ومكانه وسياقاته.. ومن بين العناوين والقضايا التي تتفرع عن هذا الحدث، ما يتصل بمحاولة تكريس النكبة وإعادة انتاجها بصيغة أخطر من النكبة الاولى. واخرى تتصل بالرواية الاسرائيلية وما تستند اليه..
فيما يتعلق بإعلان الكيان الغاصب، يمكن إيراد الكثير من العوامل الدولية والعربية، وأخرى فلسطينية وصهيونية.. لكن مجريات الاحداث، والمنعطفات التي مرت بها قضية فلسطين، تؤكد على حقيقة أن نكبة فلسطين وتحديدا الوجه المتعلق باعلان الكيان، لم يكن أمراً مسلماً بذاته، بل هو نتاج تفاعل منظومة من العوامل ذات الصلة. تماما كما أن منع تكرارها بصيغة لبنانية، منذ ما بعد عام 1982، لم يكن أمراً مسلماً، بل مجموعة من الشروط الموضوعية والذاتية، التي أنتجت ارادة وفعل مقاومة ثم تحريرًا…
أبرز المحطات (وبعبارة أدق النكبات) السابقة، التي أدت الى نكبة اقامة الكيان، كانت “نكبة” الاستيطان اليهودي في فلسطين، الذي وفَّر الارضية لبناء شبكة منظمات صهيونية.. إذ لولا البنى التي أنشأتها الحركة الصهيونية على ارض فلسطين بحماية الاحتلال البريطاني، لما توفرت الأرضية لارتكاب نكبة تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه.. ولولا نكبة التهجير، وبمعية الغطاء والتخاذل العربي، والارتهان للسياسة البريطانية، لما توفَّرت الأرضية لإقامة “اسرائيل”.
ومن أهم العبر التي يمكن استخلاصها من مراحل الصراع مع “إسرائيل”، وصولا الى الواقع القائم.. أن آفاقه مفتوحة على الكثير من المسارات التي كل منها ليس أمراً مسلماً بذاته، بل إنه مرهون بشروط ومقدمات. لكن الأخطر بينها هو نكبة إضفاء الشرعية على احتلال فلسطين، وصولا الى الترويج لإمكانية تحويلها الى حليف لأنظمة عربية، على حساب الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية. بل هو الامتداد والذروة للمسار الانحداري الذي بدأ قبل أي شيء بالمسار الاستيطاني في فلسطين وتوج بنكبة إعلان “اسرائيل” كـ”دولة”..
الرواية الوقحة.. والهادفة
المبدأ الذي انطلقت منه الحركة الصهيونية في التأصيل والتخطيط لتهجير الشعب الفلسطيني، يكمن في الشعار – المفهوم، “أرض بلا شعب، لشعب بلا ارض”. ومن أجل ترجمة هذا الشعار وتحويله الى واقع، كان لا بد من استراتيجية تضمن تحقيقه، فكانت نكبة التهجير التي أسست لنكبات متتالية..
وعلى ذلك، فإن علاقة تهجير الشعب الفلسطيني من ارضه، باعلان الكيان الغاصب هو علاقة المقدمة الضرورية بنتيجتها. اذ لم يكن بامكان نحو 650 ألف صهيوني (في العام 1948) إقامة “دولة”، في ظل وجود نحو 900 ألف فلسطيني (عدد الفلسطينيين في ذلك الحين ضمن ما عرف بمناطق العام 48).
مع ذلك، فإن قادة “إسرائيل”، وتحديداً بن غوريون لم يتردد في نسج رواية أقل ما يمكن وصفها بالوقحة، لكنها مدروسة وتستند الى رؤى وخطة محكمة. وأبرز ما في الرواية أن اللاجئين الفلسطينيين لم يخرجوا من فلسطين نتيجة المجازر وسياسة الرعب التي نشرتها المنظمات الصهيونية في حينه. بل خرجوا اما طوعا أو بناء على طلب عربي.. “والأبلغ” في تلك الرواية أن منظمة “الهاغاناه” حاولت – بحسب بن غوريون – اقناعهم بالبقاء في منازلهم وممتلكاتهم.. والخلاصة التي هدفت الرواية من خلالها هي أن اسرائيل لا تتحمل مسؤولية تهجير الشعب الفلسطيني.. وانما هم الذين تبنوا خيار “الهجرة” وعليهم تحمل نتائجها.
وبالمقارنة مع الواقع الحاضر، يمكن ملاحظة أثر الترويج للرواية في تكوين الرأي العام من خلال القضية السورية التي يصح اعتبارها أبرز عينة تطبيقية في هذه المرحلة، لاكتشاف مفاعيل الصورة – المفهوم، حتى ولو كانت بعيدة كل البعد عن حقيقة الواقع.
في القضية السورية، تمت التغطية على حقيقة المخطط الذي يستهدف المقاومة في لبنان وفلسطين، والخيارات الاستراتيجية التي تتبناها الدولة السورية، وتم انتاج صورة للمعركة الدائرة على أرض سورية، كما لو أن ما يجري ليس له هدف سوى تحقيق الحرية والديمقراطية.. وعلى هذا الأساس تعقد مؤتمرات وتسخر وسائل اعلام ويتم تعبئة شعوب والزج بقطاعات واسعة من الشباب العربي والاسلامي في المحرقة السورية.
على خطٍّ موازٍ، أُلبست المعركة الدائرة في الساحة السورية، طابعاً مذهبيا. وقد أتقن الاستكبار الدولي فنَّ استخدامه لمواجهة محور المقاومة.. وهكذا باتت المعركة بينه وبين التكفيريين، كما لو أنها معركة بين السنة والشيعة..
لكن النكبة الكبرى التي يتم التمهيد لها، في ظل “قرقعة” السلاح وعلى وقع المجازر الدموية، واستنادا الى هذه الصورة للمعركة الدائرة، تتمثل بنسج وتمرير مخطط تحويل “إسرائيل” الى حليف معسكر عربي، في مواجهة معسكر ومحور مقابل..
وهكذا تحكي القضية السورية بأبلغ تعبير قصة مراحل ضياع فلسطين.. وقيام “إسرائيل” واستمرارها وتطورها حتى باتت أهم قاعدة إقليمية للمعسكر الغربي في المنطقة..
مع ذلك، ما ينبغي أن يبقى حاضراً هو أن أياً من النتائج ليس أمراً مسلماً، مع ما يفترضه ذلك، من ادراك لخطورة الموقف وتداعياته والمسؤولية ازاء الخيارات الماثلة أمام الشعوب العربية عامة، والشعب الفلسطيني خاصة.