أيزنهاور.. بداية ونهاية
أحمد فؤاد
في الحقيقة يملك العالم العربي تاريخًا كبيرًا وعميقًا وممتدًّا، لكن هذا التاريخ بالنسبة لشعوب ودول المنطقة أشبه بمكتبة مذهبة تزخر بالنفائس، لكن عليها لافتة “ممنوع اللمس”، لكن في لحظة ما من صراع “طوفان الأقصى” فإن أطرافًا عربية قد أطلقت شرارة الفكرة العبقرية التي تبعث إلى النفس بزخم من الطاقة الخالصة لكسر هذا الواقع ومحو أزمان كاملة من الذلة والتبعية والهوان. عرفنا بالممارسة الجهادية المستمرة من جبهات الشرف العربي في جنوب لبنان واليمن أن أهم شرط للوجود هو الوعي، وأن روح هذا الوجود هي الإرادة، وهكذا انطلق محور المقاومة من أطراف كان يُراد تهميشها من مستقبل المنطقة، ودفنها لو استطاعوا، إلى الطرف الأصيل والأول في معادلة القوّة والتأثير، وعبر حدث تاريخي في البحر الأحمر، وباستهداف مدد الإسناد الأميركي للكيان ومفخرة ترسانته الحربية، حاملة الطائرات دوايت أيزنهاور، بكلّ ما في الاسم والمضمون من دلالات اكتساح وتوغل أميركي، كان ثابتًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
إذا أراد طرف ما على وجه الكوكب أن يعرف مفردة “الهيبة الأميركية” بالمعنى والممارسة والمدلول، فإنه لن يبتعد عن “حاملة الطائرات”، نعم إنها التجسيد الكامل لقوة البطش الأميركية بالنسبة للعالم ولـ”الحلم الأميركي”. بالنسبة لهم، ليست حاملة الطائرات مجرد سفينة حربية ضخمة، وإن كانت تستخدم بهكذا شكل، لكنّها أبعد من ذلك،هي رمز للتفوق الأميركي والتواجد الأميركي والعقيدة الأميركية، وفضلًا عن ذلك فهي هدف لا يوضع في حسابات استهداف، رغم أن أقوى دولتين في عالم اليوم روسيا والصين قد أعلنت مرارًا عن امتلاكهما أسلحة وصواريخ فرط صوتية فائقة التقدم متخصصة في إغراق حاملات الطائرات، فإن طرفًا لم يجرؤ على توجيه رصاصة لحاملة طائرات أميركية.
كل رمزية توثين الأميركي يمكن رؤيتها في الهالة المقدسة/المحرمة حول حاملة الطائرات، فقد تحولت لأسطورة أكثر منها سلاح حرب. من سيجرؤ على رفع التحدّي إلى المدى الأقصى بإغراق قلعة فولاذية تحمل آلاف الجنود، أي أنه سيغرق في لحظة واحدة عددًا يساوى كلّ قتلى أميركا في حرب العراق 2003، من سيخاطر بشق أفق غير متخيل للمواجهة، مع مفاجأة صدمة مروعة تحقق شرخًا عميقًا ليس في الفكر العسكري الأميركي، ولكن في العقل الأميركي ذاته.
في اليوم 240 للحرب العدوانية الصهيونية على قطاع غزّة الصامد الصابر، وفي إطار الحرب المفتوحة التي أعلنها اليمن ضدّ الكيان ومن يدعمه، باتت أنباء تعرض حاملة الطائرات الأميركية دوايت أيزنهاور لإصابات أمرًا محسومًا، مع ابتعاد السفينة إلى شمال البحر الأحمر. وكان العميد يحيى سريع المتحدث باسم الجيش اليمني قد أعلن استهدافها، لكن الأمر استغرق يومين حتّى تبدو إشارات الحدث، مع لجوء أميركي إلى الصمت أولًا، ثمّ الكذب المكشوف ثانيًا بنشر فيديو قديم لإقلاع طائرات من على متن الحاملة، تبين أنه بتاريخ آذار/ مارس الماضي.
ما الذي تغيره هذه اللحظة الفارقة في تاريخ المنطقة والعالم؟
لدينا طرف عربي تجرأ على درة تاج إمبراطورية الشر المكنونة، وطال بيديه وأظافره وأسنانه ستائر الهيبة العالية المصونة. أعز ما تملك واشنطن، وأكثر ما تحرص عليه ويمنحها مكانتها في عالم اليوم، اهتزاز المكانة الأميركية، مع محدودية خيارات ردها على الفعل اليمني غير المسبوق تاريخيًا سيجعل من أطراف أخرى مدعوة لحفل تحطيم الثوابت، وسيجبر أطرافًا في المنطقة بالذات على إعادة حسابات الرهان على القوّة العالمية التي تتضعضع.
البحرية العسكرية الأميركية لم تتعرض لحوادث استهداف منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بالنسبة لحاملات الطائرات نهائيًا، لكنّها تعرضت لحوادث مدمرات (المدمرتين مادوكس وتيرنر جوي في خليج تونكين) ما أدى لاشتعال حرب فيتنام، وإن كانت مصادر حديثة تقطع بأن الحادث مدبر، والأخيرة كانت للمدمرة يو. إس. إس كول في عدن، والتي شهدت بعدها إطلاق غضب الحرب العالمية على الإرهاب ضدّ اليمن عام 2000، وشنت آلاف الغارات ضدّ الأبرياء بتواطؤ من نظام علي عبد الله صالح.
حاملة الطائرات الأميركية المعطوبة يو إس دوايت أيزنهاور، هي واحدة من أضخم السفن التي تمخر عباب المحيطات والبحار، قلعة طافية مصممة كي لا تغرق مهما كانت درجة إصابتها، سميت تيمنًا بالرئيس الأميركي الذي مثّل عملية التحول إلى زمن العلو الأميركي، الجنرال أيزنهاور قائد قوات الحلفاء في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، ثمّ رئيس الولايات المتحدة الذي شهد عهده عملية إعادة فك وتركيب المصالح الاستعمارية بحيث توغلت واشنطن في كلّ ركن من أركان العالم، خصوصًا بعد حرب السويس 56، هذا المدلول العميق جدًا لا يتأتى فهمه بغير “الحكمة اليمنية” التي تعرف ماذا تفعل، وفي أي وقت تفعل وضد من تفعل.
للمرة الأولى على الإطلاق سيدفع داعمو الكيان في الغرب ضريبة إجرامهم، ليس عبر مقاطعة تجارية أو إنسانية –مطلوبة كذلك – لكن عبر دماء تهرق في الصراع وبسببه وحوله. ما نجح فيه الحصار اليمني أنه يهدّد مستقبل واستمرار دعم الكيان في الغرب، وإذا كان بعض طلاب الجامعات الأميركية تحركوا أمس واليوم نتيجة للمجازر والوحشية والدناءة المرعبة للاحتلال، فإن تراكمات العمليات اليمنية سيضيف أعباء جديدة إلى مواقف قائمة، وينذر بالمزيد من الرفض لمسألة الدعم المفتوح للكيان.