الدريهمي؛ حصار وانتصار! (3)
تعز نيوز- كتابات
المدينة تصارعُ الموت، والعدو يزدادُ حقارة، ويتابعُ كل متحرك فيها، وتُطلق طائرةٌ صاروخها، ويتصاعد الدخان من أحد البيوت. إنه بيت عمر يماني. يتسابق المجاهدون والمواطنون نحوه، لكنَّ أعينهم لا ترى سوى الدماء، وأيديهم لا تلتقِط سوى الأشلاء؛ زوجة اليماني وابنته وأخته، أكوام متناثرة، وقطعٌ ممزقة، أدمَت القلوب الحائرة، وأبكَت العيون الناظرة.
“لابُد من الرَّد” جُملة ترددت على ألسنة المجاهدين، وسرَت في أوردة المُرابطين، ولا مكان للتسويف، ولا مجال للتلطيف. جمع القائد عبد الله العزي رجاله، ورتَّبَ عدته وأحواله، وشحذ هممهم العالية، واستثار غيرتهم الثائرة، ومضوا إلى أطراف المدينة، حيث تقفُ ضباع التحالف، ونعاله الرخيصة، ساروا بهدوء، استقبلتهم حفرة واسعة، استقروا بداخلها، يتدارسون توزيع المهام الأخيرة، قبل الانغماس في المسارات القتالية، ومُهاجمة المتارس المُعادية، إلا أن العدو اكتشفَ تواجدهم، واستبقَ نِزالهم، وأحاطَ بهم، وأصبحت الحفرة تحت مرمى النيران، الخارج منها مجهول، والمُحتمي بها مقتول. ما الحل؟ سؤالٌ ليس له جواب، إلا ترديد الدعاء، في إخلاصٍ قلَّ نظيرة. قبل قليل كانوا في مدينة مُحاصرة، والآن في حُفرةٍ مُحاصرة.
يشير المصور الحربي إلى عاصفة رملية قادمة، فيتهلل وجه القائد، ويقول “إنها المدَد”، وسرعان ما غطَّت المكان، فأصدر أوامره باقتحام المواقع، وخرج الأبطال من الحفرة، واتجهوا نحو متارس المرتزقة، واشتعلت النيران في الأطقم الواحد تلو الآخر، وبعدها المُدرعات، وارتفع صراخ المرتزقة من كل مكان، وأسكتهم الرصاص المُسدد، وارتفع صوت المجاهد محمد الكربي بالتكبير، وسجدَ هاني الأجدعي وهو يشاهد جثث الخونة في كل مترس، وأخذ هيلان الحيمي ومختار الديلمي وليث الشامي ينتزعُون السلاح من المتارس، فيما وائل النهاري يرفع يديه للسماء شُكرًا وحمدا…
عادَ الأبطال، سالمين غانمين، دون أي إصابة…
أصيبَ العدو بعدها بنكسةٍ كبيرة، وخيبةٍ مثيرة، وتوبيخٍ شديد، مِنَ المُشغِّل البليد، فضاعفَ قصفه للمدينة، لأيامٍ وليالٍ عديدة، وتولى كِبر القصف بعنجهية؛ مرتزقة الجهة الجنوبية، فاجتمع القائدُ برجاله العظماء، وتم إرسال فريق الاستقصاء، والرصد الدقيق بدهاء، وعادوا بمعلوماتٍ قيمة، عرفوا بها المفاصل الخفية.
تحرَّكَ سرب المؤمنين لثلاثة كيلومترات، في سِرِّيةٍ تامة، وتنظيمٍ دقيق. حدد القائدُ المسار الأول، لضرب أقوى نقطةٍ للعدو، المتمثلة في رشاش عيار 14 على أحد الأطقم، تحركَ كل واحدٍ في دربه، حتى أصبحوا يشاهدون المرتزقة، وهم يغسلون ثيابهم، ويطبخون طعامهم، ويتلاعنون فيما بينهم، ولا يخطر ببالهم، أنَّ الفتية المُحاصرون، سيتجرؤون للوصول إلى هذا الموقع الأكثر شراسة وصلابة، ابتدأت قلوب المجاهدين تخفق بقوة، وكلٌ منهم يريدُ أن يصطاد مرتزقًا أمامه، لكن للتوجيهات عظات، وانتظر الجميع نسفَ الطقم المُريع، وما هي إلا ثوان، والمُعدل يخر ساجدًا أمام قذيفة مسددة، ويحترق الطقم بقائد المرتزقة، ولا يتمكن من الفرار، ولا تنجو من الحريق سوى قدميه، وتلعلع أفواه البنادق، ويتفاجأ المرتزقة بهذا الهجوم المُباغت، ويفرون كالجراد المبثوث، لا يدرون إلى أي اتجاه، ستكون فيه النجاة، حتى أن بعضهم غادر المكان عاريًا من شدة الهول، ولم تُلاحقه الرصاص رحمة، ورصدته الكاميرا عِبرة، وتم التنكيل بعبيد الريال، وعاد الأبطال بغنائم جيدة، بعد أن أحرقوا المتارس الثلاثة بما فيها…
كانت الأمم المتحدة، تراقبُ وتترقب، متى تسقط الدريهمي، في يد المرتزقة، إلا أنها لم تسقط، فجاءت بعد ستة أشهرٍ من زيارتها الأولى، وجاءت بقافلة تائهة، لا تحمل سوى بقايا أغذية، ودقيق مليء بالحشرات. لم يبق فريق الأمم إلا ربع ساعة، وغادر المدينة، وبعد مغادرته مباشرةً، جاء الطيران، واستهدف القافلة، وحولها إلى رماد، وكأنها لم تكُن إلا طُعمًا لقتل المُحاصَرين، ولكن الله سلَّم، واحترقَ الدقيق الفاسد، والملابس المهترئة، وسلِمَ الأبطال اليقظين…
أحسَّت الأمم المتحدة بالإحراج، بعد انفضاح أمرها، وكشف سِترها، وأرسلت الصليب الأحمر، بقافلةٍ أخرى، لتعويض قافلتها، وسد ثغرتها، ودفن جريمتها، وجاء الصليب الأحمر، وبدأ أمرًا آخر، حيث رغَّب الأهالي بالخروج من المدينة، والنزوح إلى الخوخة، فرفضَ بعضهم، وتساءل البعض الآخر: لمَ لا يكون النزوح إلى الحديدة وليسَ الخوخة؟ فلم يأتهم جواب، فقرروا البقاء في بيوتهم ومزارعهم.
تمر أيام الحصار بطيئة، ويصل عددها إلى 403 يوما، وتبدأ الذخيرة بالتناقص، ويصلُ الخبَر إلى المرتزقة، فيكررون اختراقاتهم، لكي يستنفدوا ما تبقى من ذخيرة لدى الأبطال، فيُدرك الأبطال الخديعة، ويُقررون عكس المناورة، وإبطال آمال المرتزقة.
وفي السادس من نوفمبر 2019م يقرر القائد ورجاله الأبطال مهاجمة الأنذال، بعد رصد شامل، ومسحٍ متكامل، ويتحركون في مسارين أحدهما باتجاه الأسفلت، ويقتربون من العدو إلى نقطة الصفر، وتشتعل الأرض بالرصاص، في وقت الظهيرة، حيث لا يخطر ببال أحد ذلك التوقيت، ويستمر الاشتباك لعشرين دقيقة، ويُقتل ويُجرح من الخونة ثلاثون، ويتم أسر ثلاثة من اللواء الثاني بقيادة المرتزق حمدي شكري.
لم يكتفِ أبو راغب بما تحقق، لكنه كان يبحث عن رأس المرتزقة، ويسأل ويُجندِّل، حتى صعدَ شهيدًا وهو فوق أحد المتارس، ويلحق به العظيمين أبو هيلان، وأبو شهاب.
يعود الأبطال بنصرٍ مؤزر، ولكنهم خسروا ثلاثة شهداء، وخسارة شهيد واحد، تعادل في تلك الظروف كتيبة كاملة، وتبقى جُثة البطل هلال الحيمي بين يدي المرتزقة، بعد أن انطلق يلاحقهم كأسدٍ يطارد الفرائس، وتوغل كثيرًا، حتى غاب عن الأنظار، وأصبحَ بين جموعهم الخلفية.
ولم يستطع قائد المجاهدين النوم، بعد أن تأكد من استشهاد هلال وعدم التمكن من سحب جثته، فبدأت المفاوضات مع قائد المرتزقة حمدي شكري، وعُرضَ عليه إطلاق سراح الأسرى الثلاثة مقابل الجثة، لكنه أجاب بكل نُكران وسُخرية وعنصرية: (ما هم الا من تعز، احرقوهم)، سمعَ الأسرى التعزيين كلام قائدهم الجنوبي، فبكوا وأبكوا، وشعروا بعد فوات الأوان، بأنهم أرخص مرتزقة، وأحقر عبيد. أحسوا بالإهانة تخترق حناجرهم المليئة بالطعام، أحسوا بالسقوط المدوي، خاصة بعد أن وضعوا دماءهم وجماجمهم بين يدي من يسخر منهم، ولا يحسب لهم قيمة للتبادل، وتنكَّر لقتالهم وتبعيتهم….
وصلتِ الأخبار إلى سيد الأخيار، فأوصى بعدم المهاجمة، وحفظ كل قطرة دم طاهرة، وأوصى بخطةٍ ربانية، كانت بفضل الله مُسددة وقاصمة، وسأتناولها مع غيرها في المقالة القادمة.
✍🏼 د مصباح الهمداني
#المركز_الإعلامي_لأنصار الله_تعز
أشترك على قناة أخبار تعز تلغرام