هل يشتعل الشرق الأوسط على تبادل الأنخاب بين واشنطن وتل أبيب؟
تعددت الآراء والدراسات التحليلية الاستراتيجية التي تناولت تطور الأحداث ودلالاتها وتداعياتها المحتملة في منطقة الشرق الأوسط المتأرجحة أصلاً على صفيح أكثر من ساخن، وتفاوتت الآراء بين منبطح ترتعد فرائصه من هول ما سيجتاح المنطقة إن لم يتم الإذعان لمشيئة واشنطن وحلفائها واتباعها وأدواتها التنفيذية عملا بقاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” وبين مطمئن يرسم أحلامه الوردية وفق مايتمنى ويراود ذهنه من آمال ورغبات وكأننا سنستقيق غداً وقد غدت واشنطن وفاعلية دورها المؤثر في خبر كان المحذوف وجوباً، وما بين هذا وذاك تعددت درجات التموضع قرباً أو بعداً من مقاربة المشهد انطلاقاً من تصورات وأفكار تم العمل على بثها وتوطينها لتصبح جزءاً من طرائق التفكير التي ترسم معالم السلوك والسياسات التي يمكن اعتمادها، وهذا بحد ذاته جزء من هذه الحرب المفروضة على أبناء المنطقة لمصادرة إرادتهم بشكل مسبق، فما هي الرؤية الأقرب للفهم والموضوعية؟ وكيف يمكن النظر للمستقبل القريب قبل البعيد؟ وهل يعقل أن تسلم واشنطن بانكفاء دورها من المنطقة؟ وماذا عن حلفائها وأعوانها وأدواتها التنفيذية إن تمكنت سورية وبقية أقطاب محور المقاومة من الانتصار في هذه الحرب الطاحنة التي لا يمكن التنبؤ بدقة بموعد انتهائها وتوقف تداعياتها الكارثية؟ وفي الوقت نفسه هل يعقل أن روسيا حضرت للمنطقة بثقلها العسكري الضاغط والنوعي لتغرق في هذا المستنقع أوذاك وتجتر آلام سيناريو الاتحاد السوفييتي المستنزف في أفغانستان؟ وكيف سترسو سفينة المنطقة في هذا المحيط المتلاطم بأمواج عاتية وعالية ومتضادة على امتداد الزمان والمكان؟
بعيداً عن التوقف عند الجزئيات التي تترك آثارها على النتائج العامة يمكن القول إنه يتعذر تكوين صورة متكاملة وواضحة ومترابطة المقدمات بالنتائج وسط هذا الكم الهائل من المتناقضات في مواقف غالبية الأطراف الفاعلة بخصوص ما يجري على الجغرافية السورية، وسنظل ندور في حلقة مفرغة مالم يتم الانطلاق من واقعتين ميدانيتين فرضتا على الجميع استحضارهما على أية طاولة تبحث واقع المنطقة ومستقبلها، فالواقعية الأولى خاصة بصمود الدولة السورية وبقية أقطاب محور المقاومة على امتداد الأعوام الماضية، وهذا ما شجع روسيا الفيدرالية على الانتقال من الدعم السياسي والدبلوماسي إلى الانخراط المباشر في الحرب على الإرهاب مع الجيش العربي السوري وبقية القوى الرديفة المنتشرة على امتداد ساحات المواجهة الميدانية، مما أدى إلى تبدل جوهري في لوحة الميدان وتآكل القدرات القتالية وإرادة القتال لدى الكثير من المجاميع الإرهابية المسلحة وبدأت تلوح في الأفق إمكانية القضاء على الإرهاب عسكرياً إذا توافرت الإرادة الدولية الجادة لذلك.
الواقعية الميدانية الثانية تتعلق بانتشار المجاميع الإرهابية وسيطرتها على عدة مناطق جغرافية سورية برعاية مباشرة ممن يدعون محاربة الإرهاب بعامة وداعش بخاصة، وهذا الانتشار هو ما تستثمر فيه الدول الإقٌليمية والعالمية المنضوية في مشروع تفتيت المنطقة بشكل مباشر أو غير مباشر، أي أن التموضع الميداني القائم يستند إلى استماتة تركيا والسعودية ومن يدور في الفلك الصهيوأميركي على تفتيت سورية إن أمكن تمهيدا لتحطيم محور المقاومة، وبالتالي ضمان التحكم بالمنطقة وبالقرار الدولي لعقود قادمة، وعلى الطرف المقابل يتضح إصرار الدولة السورية ومن معها على التصدي لجحافل الإرهاب الذي ثبت أن أخطاره قادرة على التوسع والانتشار، وأن محاربته حيث أكبر تجمعاته اليوم أقل تكلفة بكثير من الانتظار إلى أن يغادر الجغرافيا السورية ويتمكن من دخول جميع المدن والعواصم التي يضعها على بنك أهدافه.
انطلاقاً مما تقدم، واستنادا إلى الاصطفافات الجيوبوليتيكية الجديدة التي أفرزتها تداعيات هذه الحرب المركبة والمفروضة على دول المنطقة يتضح أن الزخم الروسي المتصاعد قد ترك آثاره الميدانية التي سيكون لها منعكسات سياسية بشكل حتمي، وساذج من يتوهم أن الفكر الاستراتيجي الروسي يستطيع أن يضع ضمن النتائج المقبولة إمكانية الانكفاء أو التفاهم مع واشنطن على ما قد يضعف قوة سورية وبقية أقطاب محور المقاومة، لأن قوة أولئك هي الضمانة الوحيدة لتمكين موسكو من العودة إلى منصة اتخاذ القرار الدولي، وفي الوقت ذاته ساذج وأمي في السياسة والاسترتيجيا من يظن أن واشنطن مستعدة للاعتراف بحق طرف آخر بمشاركتها تلك المنصة إلا تحت قيادتها أي كتابع وليس كشريك، مع الأخذ بالحسبان فاعلية أدوار حكومات الظل المسيرة وفق أجندة صهيونية في غالبية دول العالم، وإمكانية استثمار تلك الظلال لضمان منع ظهور قوة مكافئة مهما كانت النتائج والتكاليف ، وبخاصة أن ريع عائدات النفط الخليجي مكرس لتحقيق هذا الهدف، وكيف لا والنظم الحاكمة هناك حكومات ظل معلن عنها رسمياً وقرارتها تطبخ في واشنطن وتل أبيب ولندن وباريس وليس في عواصم الدول التي تتربع تلك الأسر الأوليغارشية على كراسي السلطة فيها.
إذن التهديدات التركية والسعودية ليست مجرد فصل في الحرب النفسية أو لرفع الروح المعنوية للمجايمع الإرهابية المتداعية في الشمال والشمال الشرقي من اللاذقية وحلب، ورفع السقوف وتسويقها كضغوط تمارس على الإدارة الأمريكية ليس أكثر من عرض مسرحي مفضوح على مسرح التضليل الاستراتيجي وتوزيع الأدوار المتكاملة لا المتناقضة، وهذا يفرض على الجميع وضع سيناريو التدخل العسكري برياً في سورية تحت أي مسمى على محمل الجد، فإمكانية اعتماد هذا السيناريو أو ذاك لا ترتبط بنسبة مئوية محددة بل بتداعيات الأحداث ، وطالما أنه أحد السيناريوهات المحتملة يجب أن يبقى فوق الطاولة، فواشنطن ارتطمت بحائط مسدود لا أمل في اختراقه ، وتجاوزه يعني تهيئة البيئة الاستراتيجية لمواجهة شاملة تصل مرحلة حرب أكبر من إقليمية وأقل من حرب عالمية،وهذا ما لاتريده واشنطن، كما أنها لاتريد استبعاد الخيار العسكري، ومارفض استصدار قرار من مجلس الأمن لمنع تركيا من الاستمرار بخرق السيادة السورية إلا الدليل على أن واشنطن لم تحذف التصعيد الميداني من قاموس الاعتماد، وكذلك تلميحات جون كيري منذ عدة أيام فقط في جلسة استماع أمام مجلس الشيوخ إلى إمكانية تقسيم سورية هو مؤشر واضح على أن ماخفي من حلقات هذه الحرب المفروضة على المنطقة كثيرة، ومن حق المتابع العادي أن يتساءل إذا كان الجانب الروسي لا علم له فعلاً بالخطة البديلة التي تحدث عنها كيري، فما جدوى الاتفاق الروسي ـ الأمريكي على وقف الأعمال القتالية في سورية ابتداء من 27/2/2016م.؟ وهل يمكن للإدارة الأمريكية أن تكون غافلة عن دلالات تلك التلميحات التي تتضمن دعوة علنية للدولة السورية للتفاوض تحت سيف التهديد والوعيد، وعندما نقول الدولة السورية في هذا الواقع المعقد والمتداخل فالأمر يعني بقية الأطراف التي تقف مع سورية بدءا بحزب الله ومروراً بإيران ووصولاً إلى روسيا الفيدرالية، وفهم هذا التشابك يتطلب توسيع دائرة الرصد والاستطلاع اللازم لتكوين زاوية رؤية علمية لا يغيب عن محرقها أي سيناريو محتمل بما فيها سيناريو الانفجار والاشتعال.، ولاسيما عندما نضيف إلى كل ماسبق الإجماع الإسرائيلي على أن استقرار” النظام” في سورية أكثر خطراً على تل أبيب من استمرار الفوضى المحتملة التي قد تعصف بسورية وتجتاحها، لأن انتصار سورية يعني زيادة عوامل قوة إيران وحزب الله وهو الخطر الوجودي الأكبر الذي يواجه الكيان الصهيوني، وقد ثبت أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة تصنف أمن الكيان الصهيوني في مقدمة الخطوط الحمراء التي قد تدفع واشنطن لإشعال المنطقة برمتها ضاربة بذلك عدة عصافير بحجر واحد، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
ـ ضمان استمرار اضطراب المنطقة، وعدم الاستقرار أطول فترة ممكنة، وهذا يعني عدم تبلور محددات جديدة لآلية التحكم بالقرار الدولي، أي بقاء الهيمنة الأمريكية المفروضة منذ عقود كما هي، وفي أسوأ الحالات مع تعديلات طفيفة تبقى في الإطار الإعلامي والنظري غير القابل للتطبيق.
ـ استمرار دوران ماكينة استنزاف عوامل القوة الشاملة للدولة السورية، وإمكانية توسيع دائرة الاستنزاف لتشمل بقية أقطاب محور المقاومة وكل من يدعمهم، والعمل الجدي لجعل الجعرافيا السورية مستنقعا يبتلع أي طموح روسي بتقاسم منصة القرار الدولي، ويمهد لتطبيق النظرية القائلة بضرورة إعادة إغراق روسيا لتبقى خارج إطار الفاعلية الدولية لعقود.
ـ ضمان استمرارية عائدات المجمع الصناعي العسكري التي تنتعش بالحروب وتتقلص في ظل الأمن والاستقرار، وفي الوقت ذاته ضمان تجفيف الاحتياطي النقدي الخليجي وتسخير العائدات النفطية لخدمة الحرب بدلاً من تنمية المجتمعات في جميع دول المنطقة.
– تهيئة البيئة الاستراتيجية للتقدم خطوات متسارعة في مشروع الفوضى الخلاقة القائم على تفتيت البنى السياسية للدول وإعادة تركيبها وفق أسس إثنية ومذهبية وطائفية خدمة للأهداف الصهيونية الحريصة على أن يبقى الكيان الإسرائيلي أنموذجاً للدولة الدينية ومر جعية يحتكم لها المتحاربون فتتحول تل أبيب إلى خصم ومحام وحكم بآن معاً.
من الجدير بالذكر هنا أن التحشيد العسكري يقود إلى حروب ولو لم يرغب المتحاربون، والحضور العسكري الكوني في المنطقة ينذر بكوارث لا تستثني أحداً، وواهمٌ من يظن أن محاور الميدان ونتائجها تبقى كما يرسمها المخططون، فأقطاب المقاومة لا يمكن أن يسقطوا من حساباتهم أسوأ حالات السيناريو التفجيري الذي قد يتضمن هجوماً برياً من أربع اتجاهات: من الشمال عبر الجدود التركية، ومن الجنوب عبر الأردن، وقد يكون أقل الاحتمالات ليس محبة بالأردن ولا خوفاً عليه من تداعيات نار الحرائق المتنقلة بل لضمان بقاء ألسنة اللهب بعيدة عن الكيان الإسرائيلي، ومن الجنوب الشرقي عبر الأراضي العراقية تمهيدا للانتقال بتقسيم العراق من إطار الممكن إلى إطار الواقع القائم، وهناك الاتجاه الأكثر خطورة وهو الغربي عبر وادي خالد وما حولها، فطرابلس المفتوحة على البحر قد تتحول وبسرعة دراماتيكية تفوق القدرة على التعامل المباشر مع أي وضع مستجد إذا كان قرار إحراق المنطقة قد اتخذ فعلاُ، وهذا سيفرض على حزب الله التعامل مع جبهتين ملتهبتين وواسعتين مع الإبقاء على جاهزية قتالية عالية تأخذ بالحسبان إمكانية دخول “إسرائيل” على الخط في أية لحظة، وقد يكون التصعيد السعودي الأخير وتأزيم الأوضاع السياسية والداخلية وشحن الأجواء ودفعها نحو الانفجار مقدمة مطلوبة لإشعال المنطقة عبر البوابة اللبنانية، ومع التسليم بأن اشتعال المنطقة يفوق طاقة أية قوة أو قوى على تحمل تكاليفه، لكن ماذا لو تفتق الفكر الاستراتيجي الصهيو ـ أمريكي عن توريط تركيا والسعودية لضمان انتقال نيران الحرب الطائفية في المنطقة، وضخ تضليل إعلامي يسوق ضغوطاً وهمية تمارسها واشنطن على تل أبيب لمنعها من التدخل المباشر أي بقاؤها متفرجة حيث يتم تبادل الأنخاب وقرع الأكواب على تشظي دول المنطقة وإفناء بعضها بعضاً عبر الخلط المتعمد للأوراق، وفتح عدة جبهات للتدخل البري في سورية بذريعة محاربة داعش أوعدم التزام دمشق بمضمون القرار الدولي المزمع اتخاذه من مجلس الأمن لفرض وقف العمليات القتالية، وكذلك إبقاء الناتو بعيداً عن الانخراط المباشر في الحرب المحتملة، وإذا تدخلت روسيا بشكل أكثر فاعلية يصبح الأمر أكثر مردودية حيث تضطر الدول المتورطة لتجديد ترسانتها الحربية ورفدها بما تتطلبه الحرب المركبة من ذخائر ومستلزمات لتعويض الخسائر، وتتفرد أمريكا بدور الراعي والمشرف والمخلص للجميع، حيث تتحول بقدرة قادر من راعية فعلية للإرهاب الممنهج إلى بطل عالمي وحيد يتدخل من فترة لأخرى لمنع امتداد ألسنة اللهب والحيلولة دون خروجها عن السيطرة والتحكم، وعلى من يفكر بذلك من أصحاب الرؤوس الحامية ألا يسقط من حساباته أنه بإمكان أي طرف إشعال فتل الحرب، لكن التحكم بنهايتها وتداعياتها يبقى خارج الإرادة، وميادين المواجهة المفتوحة منذ بداية القرن الحالي خير شاهد على ذلك، فقد يتم ترتيب الطاولة وتحضير الأقداح وتعالي قهقهات الشماتة بتطاحن شعوب المنطقية عبر حروب طائفية محسوبة بدقة، وقد تقلب الطاولة فوق رؤوس جميع اللاعبين وفي مقدمتهم الكبار منهم، وعندها لن تنفعهم السطوة الأمريكية، ولا الجبروت المالي والعسكري، ولا دهاء الاستخبارات البريطانية وقدرتها اللامحدودة على زرع الفرقة والانقسام وحياكة المؤامرات، والتسلل المضمون إلى بنية المجتمعات لتفتيتها من الداخل، ومن يستبعد وصول ألسنة اللهب إلى تل أبيب في حال انفجار الأوضاع عليه أن يراجع طبيب بصر وبصيرة.
د. حسن أحمد حسن