روسيا واستعادة الدور والمكانة بصمود سوريا
الولايات المتحدة تعرب عن قلقها تباعاً، وتحذّر من عدم يقينها لصدقية الأنباء القائلة بأن روسيا تعزز وجودها العسكري في سوريا مباشرة. قيادة حلف الناتو “اخذت على حين غرة” بتلك التقارير التي لم ترتقِ لمستوى تحقيقات موثقة.
دول الحلف لم ترسو على أولوية مشتركة لمصادر تهديدها “هل هي موسكو أم تنظيم الدولة الإسلامية”، وفق رواية مدير استخبارات الحلف الأميرال الأميركي بريت هايمباينر.
التصريحات الرسمية للمسؤولين الأميركيين، سياسيين وعسكريين وضباط استخبارات، توّخت الحذر بل الحذر الشديد من توجيه اتهامات مباشرة لموسكو، مما يدل على أن مصدر “التقارير” ليست أميركية ويرجح أنها “اسرائيلية” .
البيت الأبيض، في أحدث تصريح بهذا الشأن، التزم التركيز على ضرورة التوصل لحل سياسي قائلاً إن “نوايا روسيا في سوريا غير واضحة بالنسبة لنا، وكررنا لهم ما ينبغي عمله للتوصل لحل سياسي انتقالي” هناك.
وزارة الخارجية اكتفت بالإعراب عن “القلق في حال التثبت من صحة أنباء الوجود العسكري الروسي في سوريا.”
مدير وكالة الإستخبارات المركزية، جون برينان، أوضح مطلع الأسبوع الجاري ان “روسيا التزمت التعاون (معنا) طيلة الأزمة السورية في مجالات الأمن وتمدد العناصر الارهابية خارج نطاق الاقليم”.
واضاف في مؤتمر انعقد حول الأمن القومي الاميركي “قمت وبصحبة (مسؤولين) آخرين بالاتصال والتشاور مع نظرائنا الروس حول القضايا المقلقة المشتركة”.
في سياق “القلق” عينه، اتهمت صحيفة “نيويورك تايمز”، 11 أيلول/ سبتمبر، الرئيس أوباما وإدارته بفشل سياسته السورية والتي يتعين على “الولايات المتحدة دفع الثمن الذي يتجسّد راهناً بتنامي اعداد الجهاديين وتعزيز التفوذ الروسي في المنطقة”.
وأوضحت ان جذر الفشل يكمن في “معارضة الرئيس أوباما استخدام القوات العسكرية الأميركية على نطاق واسع – وهي عقيدة تضمن استمرار الحرب في سوريا الى أجل غير مسمى”.
صحيفة “واشنطن بوست” 11 أيلول، المقربة من دوائر صنع القرار اشارت الى ان “سوريا هي اهم المعاقل الروسية في المنطقة وركيزة اساسية في حسابات (الرئيس) بوتين”.
والتزمت لهجة الغموض الرسمي من المستقبل بالقول “.. يصعب التكهن بحجم التغيير الذي سينجم عن هذا التصعيد الروسي الجديد.”
لم يكن في جعبة واشنطن من ادوات ضغط سوى الطلب من بعض اعضاء حلف الناتو باغلاق مجالها الجوي امام الطائرات الروسية المتجهة لسوريا.
استجابت بلغاريا وتحفظت اليونان على الرغم من مأزقها المالي الضاغط. مضت روسيا في عزمها تجهيز الجيش العربي السوري بالمعدات التي يحتاجها “لمكافحة قوى الارهاب،” وفتحت ايران اجواءها للطائرات الروسية كخط بديل معلنة بذلك تعزيز علاقات التحالف القائمة بينهما وبين سوريا.
يشار إلى سعي الحكومة اليونانية السابقة تمتين علاقاتها مع روسيا، توّجت بتعدد زيارات رئيس الوزراء المنتخب، اليكسيس تسيبراس، لموسكو وتوقيعه اتفاقية انشاء خط انابيب النفط يمر عبر الأراضي اليونانية تقدر كلفته بنحو 2.2 مليار دولار.
مستقبل الحكومة اليونانية وتوجهاتها المستقبلية تبقى في خانة التكهن، نظرا لحاجتها الماسة للسيولة المالية والاقتراض من البنك والصندوق الدوليين، اللذين تمارس واشنطن نفوذا كبيرا ومسيطرا عليهما.استطرادا لتباين رؤى دول حلف الناتو حول سورية، بدأت عوارض التصدع تظهر في صفوفه والابتعاد عن سياسة المواجهة والتدخل العسكري.
رئيس فنلندا الحالي، ساولي نينستو، ضمّ صوته لصوت سلفه الرئيس السابق مارتي اهتيساري للاشادة بالسياسة الروسية في سوريا “التي كان ينبغي على الغرب اخذها بعين الاعتبار في المراحل الاولى للأزمة السورية”.
اهتيساري فاز بجائزة نوبل للسلام للدور المحوري في انهاء حروب البلقان “ونشر السلام وفض النزاعات والحروب الدولية.”الرئيس نينستو اثنى على بعد نظر سلفه في التعامل مع الازمة السورية، الذي اكد مؤخرا ان “روسيا ابدت نيتها للتعاون مع الغرب منذ عام 2012، لكن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة كانتا معنيتان باطاحة (الرئيس) الأسد”.
واستطرد نينستو قائلاً ان “اهتساري كان على حق.”الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدوره شدد الأسبوع الماضي مجدداً على ضرورة انشاء تحالف دولي فعال لمواجهة الارهاب وتنظيم الدولة الاسلامية، تبعه تصريحات اخرى لمسؤولين كبار تؤكد على محورية دور الدولة السورية في ذلك الجهد الدولي.
حشود روسية: عودة ام استمرار
وعززت روايتها بتصريح منسوب لمسؤول عسكري رفيع المستوى أدلى به مؤخرا لوكالة “رويترز” للأنباء معتبرا توريد الاسلحة “تحولا هاما .. وخطوة نوعية” في الاستراتيجية الروسية وعلاقتها بسوريا.
المصادر الأميركية رصدت وصول “ثلاث طائرات نقل عملاقة على الأقل” للأراضي السورية، فضلاً عن سفن شحن تحمل على متنها عربات مدرعة لنقل الجنود”.
وأوضحت أن طائرتين كانتا من طراز “انطونوف 124″، والثالثة طائرة مدنية، انطلقت في سيرها من قاعدة جوية في جنوبي روسيا ناقلة القوات الروسية، ربما من طراز “اليوشن”، حلقت فوق الأجواء البلغارية واليونانية “ويعتقد” انه كان على متنها عناصر من القوات المسلحة الروسية.
“المصادر الإعلامية” تضمنّت صحفاً عربية موالية للسياسة الأميركية، والتي زعمت أنها رصدت وصول خبراء عسكريين روس لسوريا منذ بضعة اسابيع “، انكبوا على توسيع بعض مدارج هبوط الطائرات، لا سيما في الشمال السوري”.
وأردفت مطلع الأسبوع الجاري ان سوريا طالبت تزويدها بطائرات مروحية هجومية من طراز “ام آي-28.”
واضافت ان الجانب الروسي اقام بيوتاً جاهزة “تكفي لايواء بضع مئات” من الافراد؛ ومعدات متحركة للتحكم بحركة الطيران مما يدل على ان “مجمل ما تم رصده، ومن ضمنه قوات روسية خاصة، يؤشر على نية روسيا انشاء محطة متقدمة لمراقبة حركة الطيران انطلاقاً من مطار باسل الأسد الدولي.
وفي أحدث التقارير “الاعلامية” قال مسؤولان غربيان ومصدر روسي لوكالة “رويترز” للانباء ان موسكو سترسل صواريخ متقدمة من طراز “اس ايه-22” مضادة للطائرات الى سوريا.
واوضح المسؤولان الغربيان أن القوات الروسية اقدر على تشغيل المنظومة من القوات السورية.
امام هذا المشهد، ما كان بوسع واشنطن إلا الإعراب عن قلقها لا سيما من “جهود راهنة لتعزيز نظام (الرئيس) الأسد والتي ينطوي عليها حالة زعزعة الاستقرار،” كما وصفها الناطق باسم البنتاغون، بيتر كووك، مطلع الأسبوع.
واجرى وزير الخارجية جون كيري اتصالين هاتفيين مع نظيره الروسي سيرغي لافروف لنقل القلق الاميركي، والمناشدة بتوخي الحذر من تأجيج الحرب الأهلية، كما وصفها.
الخيارات العسكرية لروسيا
وعليه، تجسد الرد الروسي الرامي لحماية اجواء وسيادة الدولة السورية ودق إسفين في توجهات الغرب لتقسيم سوريا. ا
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أراد ارسال رسائل مركبة واضحة لكافة الأطراف المعنية، قائلاً ان روسيا توفر برامج تدريب وامدادات لوجستية “هامة” للجيش العربي السوري.
وطمأن الخصوم وبطلان ادعاءاتهم حول الانخراط الروسي المباشر بالقول ان الحديث عن تدخل قوات روسية “امر سابق لاوانه حتى الآن،” مفسحا المجال لتفسيرات أخرى وعدم الغاء ذلك الخيار من الحسبان.
خيارات الطرفين، روسيا واميركا، محدودة في الجانب العسكري ويدركان مخاطر الانخراط المباشر بقوات مقاتلة والتي تستدعي آفاق دعم وامداد متواصلة.
روسيا، من جانبها، مشغولة بالحرب الدائرة في شرقي اوكرانيا، ومن غير المرجّح انخراطها مباشرة في حرب غير متوازية، وهي التي تكررت تصريحات مسؤوليها بعدم نشر قوات روسية في سوريا.
كما جاء التأكيد الروسي على لسان اللواء السابق في هيئة الاركان الروسية، ايغور كوروتشينكو، قائلاً انه لا تلوح النيّة لارسال قوات عسكرية على الرغم من امداد سوريا باسلحة روسية؛ وأكد مصدر روسي ما ورد أعلاه مباشرة لمركز الدراسات الأميركية والعربية حديثاً. يلفت بعض الخبراء العسكريين النظر إلى بعد إضافي في مسألة ارسال قوات روسية، والتي ستصطدم بمسلحي الدولة الإسلامية، الأمر الذي سيفاقم امكانية شن هجمات ارهابية داخل روسيا من قبل المتطرفين الاسلاميين.
تعزيز الدفاعات الجوية السورية هو أساس التوجه الروسي في المرحلة الراهنة لمواجهة خطر داعمي “الدولة الإسلامية” التي لا تمتلك سلاح جو، بل تنتهك المقاتلات التركية والأميركية الاجواء السورية في تلك المنطقة ، ولا تنوي روسيا استهدافها حاليا.
امداد الجيش السوري بمقاتلات مروحية حديثة يعزز من قدراته ملاحقة واستهداف تجمعات المسلحين ومنصات اطلاقهم الصواريخ المضادة، فضلاً عن تزويده أيضاً بمقاتلات حديثة وطواقم الصيانة والدعم وتدريب الطيارين السوريين عليها.
التفاصيل الحقيقية للامدادات الروسية تبقى محل اجتهاد وتكهن في الغرب. نقلت صحيفة “تلغراف” اللندنية عن خبيرها في الشؤون العسكرية الروسية، بافل هيلغينهاور، قوله “الدعم الروسي بكل تأكيد يشمل مستشارين في مجال التقنية ومهندسين لصيانة المعدات العسكرية المتطورة، وكذلك قوة من مشاة البحرية لتوفير الحماية… من غير المعقول ان يستطيع سلاح الطيران (السوري) القيام بمهامه بعد أربع سنوات متواصلة دون حصوله على دعم تقني روسي”.
كما نقلت الصحيفة على لسان ضابط سوري انشق عام 2012 قوله انه عمل شخصيا بصحبة ضباط روس اقتصرت مهامهم على “الاستشارة العسكرية وليس الانخراط في القتال”.
واضاف “معظم غرف العمليات وعدد من الخطوط الدفاعية يقوم خبراء روس بتخطيطها، وعليه يتوفر الآن خبراء تقنية اضافيين”.
الاستراتيجية الروسية بأعين اميركية
اعربت روسيا مراراً وتكرارا مخاوفها من الهدف المخفي وراء التدخل الأميركي لمقاتلة تنظيم “الدولة الاسلامية”، بينما في حقيقة الأمر ترمي للاطاحة بالرئيس الاسد
تعتقد مجموعة معتبرة من الأخصائيين الأميركيين ان قرار الرئيس الروسي بتعزيز الدفاعات السورية مناورة ترمي لإحراج الولايات المتحدة.
يوضح احدهم، قسطنطين فون ايغرت، ما يجري “فرصة للعب داخل رقعة شطرنج (الرئيس) اوباما (مفادها) تريد مقاتلة “الدولة الإسلامية”. انا موجود وجاهز. آه، آسف، (انك) لا تنوي القتال حقيقة”.
نوايا روسيا في استمرار دعمها للرئيس الأسد لم تتغير منذ بدء هجمات التكفيريين، بل ازدادت وضوحاً في محطات فاصلة، وابلغت واشنطن بصريح العبارة أن استهداف الرئيس الأسد خطاً احمر بالنسبة لموسكو.
وعليه عدّلت قواعد اللعبة لتفرض على الولايات المتحدة إما قتال” الدولة الاسلامية او الأسد.
اما روسيا فهي تقف بصلابة تدعم الرئيس السوري وتتطلع لتحقيق تسوية عبر مسار تفاوضي لا يتعرض لبقاء الرئيس السوري في أي حكومة مقبلة.
روسيا أبلغت “شريكتها” أميركا ودول أخرى تتبعها ان تركيبة واستراتيجية التحالف الدولي الراهن “لا تكفي” لمحاربة داعش والتكفيريين، إذ ينبغي اشراك الجيش السوري الذي يقاتل الإرهاب وحيدا بدعم من روسيا وايران.
بناء على ذلك، نشطت الديبلوماسية الروسية في الفترة الأخيرة للعمل مع الحكومات العربية والدول الغربية المناهضة للدولة السورية، وكذلك العمل مع كافة اطياف المعارضات السورية، وابلغت الجميع محورية دور الرئيس الأسد في اي تشكيلة مقبلة لحكومة وحدة وطنية وكذلك مشاركته في اي تكتل دولي لمحاربة الدولة الاسلامية.
واوضح الرئيس الروسي قرار بلاده الاسبوع الماضي بالقول ان نظيره السوري وافق على صيغة تسوية “تشمل عقد انتخابات برلمانية مبكرة واقامة قنوات اتصال مع ما يسمى المعارضة الوطنية واشراكهم في الحكومة”.
المواقف الغربية المتواترة لم تتغير لناحية اقصاء الرئيس الاسد من اي صيغة مقبلة. بعد انجاز الاتفاق النووي تعدلت بعض المواقف الغربية لدول رئيسة معربة عن قبولها للرئيس الاسد في مسار المفاوضات وما يتم التوصل اليه من ترتيبات.
احدثها كان خطاب وزير الخارجية البريطانية فيليب هاموند امام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس العموم البريطاني نهاية الاسبوع الجاري ان بلاده “على استعداد لقبول بقاء بشار الاسد في السلطة ..” ووصف هاموند التحول الجديد في سياسات بلاده بان “حكومته تتحلى بالبراغماتية” فيما يخص مسار المرحلة الانتقالية.
الاستراتيجية الروسية من الداخل
“افتعال” الغرب لأزمة مع روسيا ليس نتيجة تحليل او اجتهاد اكاديمي، بل هو ما يعتقده حقا خبراء الشأن الروسي لدرايتهم العميقة برغبة واشنطن “استدراج” روسيا الى حرب شبيهة بالتدخل السوفياتي في افغانستان، رغم تبدّل الظروف الذاتية والموضوعية والتوازنات الدولية من ثنائية الى تعددية الاقطاب. ولا يبدو ان روسيا غافلة او مستدرجة.