السعودية وشمّاعة “العروبة”!
“خلال الأشهر الأخيرة تجري عملية ممنهجة “لإعادة إنتاج وتصنيع” معنى العروبة بما يتلاءم مع هوية ودور بني سعود، عروبة معادية لإيران والمقاومة، عميلة للأميركيين، مهادنة للصهاينة، مركزها الخليج، وعاصمتها الرياض”، هكذا لخّص الباحث والمحلل السياسي اللبناني حسام مطر المشهد من خلال ما نشره على حسابه في موقع “فايسبوك”.
بالعودة إلى حقبة الستينيات، كلام كهذا لن يكون مفهوماً. أن تجتمع السعودية والعروبة آنذاك هو أمر مستحيل، فالشعار يومها كان كافياً لملء سجون المملكة بالقوميين.
في حقبة الخمسينيات، نشطت التيارات القومية في المملكة السعودية، كان القوميون اليساريون ينظرون إلى الوحدة العربية كحُلم وهدف، وكانوا يؤمنون بمبادئ الحرية والعدالة الاجتماعية ومناهضة الاستعمار… إلا أن المملكة آنذاك ولحسابات النفوذ الإقليمي، عمدت إلى تجريم “القومية” والمنادين بها، وهو ما يبرر العمل السري الطويل للقوميين، والملاحقات الأمنية الشديدة التي أجبرتهم على حرق كثير من الوثائق والبيانات.
في مقال نُشر عام 2014 ، كتبت الكاتبة السعودية عهود اللامي عن “الحركات القومية واليسارية في السعودية” وما تعرضت له من ملاحقات واعتقالات. تقول اللامي: “عام 1956 م حدث تحرك… للعمال (عمال أرامكو) وكان الابرز هذه المرة. فهذه المرة غضب العمال بسبب إعلان السعودية اعتزامها تجديد اتفاقية قاعدة الظهران، وبدأت حملة احتجاج واسعة ولم يكن احتجاجاً على ظروف العمل بل احتجاجاً سياسياً ومطالبةً بإجلاء العسكريين الأمريكيين من المملكة. وقام العمال والطبقة المثقفة بكتابة برقية للملك سعود يطالبونه بمنع دخول الفرقة، وفي تلك الفترة أقامت ارامكو حفلاً للملك سعود فتظاهر العمال وهم ويهتفون مظلومون مظلومون وحملوا اللافتات لأول مرة في المملكة وكتب عليها “نريد نقابة” و”يسقط الاستعمار الأمريكي”.”
رفض عمال “أرامكو” للاستحواذ الأميركي على الشركة، وهي أكبر الشركات النفطية في السعودية والعالم، قاد المملكة السعودية إلى قمع تحرك العمال “بشكل أكبر فهرب بعض المطلوبين مثل ناصر السعيد وتم اصدار مرسوم يمنع التظاهر والاضراب، وحصلت حملة تصفية على من شارك في الاحتجاجات خاصة أعضاء الجبهة، وتم اعتقال عدد كبير من اعضائها وسافر بعضهم قبل اعتقاله”.
تجريم “العروبة”… لماذا؟
في شباط/فبراير 1958 أُعلن عن الوحدة مصرية-السورية، التي رأت فيها السعودية تعاظماً لنفوذ مصر الإقليمي والدولي على حساب نفوذها، فرفضت الخطوة رفضاً قاطعاً.
لم يكن أمام السعودية ما تواجه به مصر، لأنّ حلم الوحدة العربية كان يدغدغ كل عربي، ومواجهة الإستعمار -الشعار الذي رفعته القومية العربية- كان مطلباً يشد عصب الساحات العربية. لم يكن أمام المملكة السعودية إلا شيطنة العروبة، وبالتالي إسقاط “عبد الناصر” جماهيرياً، وخطف الساحات العربية إلى مكان آخر، يرفض الوحدة ويعزز مشاريع الانقسام التي تبقي للسعودية نفوذها.
في كتابه “زمن الصحوة الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية”، يتحدث الباحث الفرنسي وأستاذ في معهد العلوم السياسية في باريس “ستيفان لاكروا” عن تلك “الحرب العربية الباردة” التي استمرت حتى أواخر الستينيات، واندلعت بين “الكتلة التقدمية التي مالت إلى الاتحاد السوفياتي حيث نصّب عبدالناصر نفسه زعيماً لها، وبين كتلة “إسلامية” آثرت المصالح الأميركية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية”.
يقول الباحث الفرنسي: “بدأت الكتلة الإسلامية بتشكيل خطاب عُرف باسم التضامن الإسلامي، كان الداعي إلى هذا الخطاب الأمير فيصل(الذي أدار شؤون المملكة بشكل متقطع بدءاً من سنة 1958 فصاعداً، وإن لم يتوَّج ملكاً بطريقة رسمية إلا في سنة 1964)”.
“ولكي يقف في وجه الدعوة إلى الوحدة العربية الاشتراكية التي روّج لها عبدالناصر، لم يجد (الملك فيصل) بُداً من جعل الإسلام، المصدر الرمزي الأول في المملكة، أيديولوجيا معاكسة”، يضيف لاكروا.
رداً على إذاعة “صوت العرب” المصرية، أسست السعودية إذاعة “صوت الإسلام”، كما أنشأت “الجامعة الإسلامية” في المدينة المنورة عام 1961، لتنافس جامعة الأزهر. وأخذت الجامعة الإسلامية تستقطب الطلاب من كافة الدول الإسلامية، وتوظفهم فيما بعد دعاة للوهابية، ومحاربين ضد العروبة. وفي إطار الحرب السعودية على مصر، أتى الإعلان عن رابطة العالم الإسلامي عام 1962.
الشعار الذي وظفته السعودية في معركتها مع مصر، عمل على تقديم عبدالناصر كعدو للمسلمين، مستغلة المفاهيم الاشتراكية التي نادى بها عبدالناصر. خاضت السعودية الحرب يومها بضوء أخضر أميركي، كان السعوديون يريدون أن تبقى مفاتيح زعامة المنطقة بأيديهم، وكان الأميركيون يريدون كسر أي نفوذ للاتحاد السوفياتي في المنطقة.
وفي إطار حربها ضد “القومية العربية” ممثلة بعبدالناصر، حاول الملك السعودي، سعود بن عبدالعزيز، قيادة محاولة انقلاب فاشل في مصر للتخلص من جمال عبدالناصر. لم يكتفِ الملك السعودي بذلك، فحاول تدبير عمليتي اغتيال لعبدالناصر، لكنهما باءتا بالفشل.
السعودية… وعروبة اليوم!
ومنذ الخمسينيات إلى اليوم لم تطال العقلية السعودية أي تبدل، إلا أن التغييرات طالت مصالح المملكة، التي يُبنى عليها من هو العدو… ويتشكل على أساسها “شعار” المرحلة.
غابت أطروحات الوحدة العربية اليوم، ليحل محلها ما هو أشمل… شماعة “الإسلام” التي وظفتها المملكة في حربها السابقة، جاء من يكذبها بتقديم نموذج مشرق عن التحرر الإسلامي، الذي يحرج السعودية ويعرّي سياساتها المدعومة من القوى التي لطالما استعمرت واستباحت الدول العربية والإسلامية.
انتصار الثورة الاسلامية في إيران عام 1979، نظرت إليه المملكة السعودية بحرج وقلق، منذ رفعه الشعار الأول: “جمهورية إسلامية لا شرقية ولاغربية”، ناسفاً بذلك كل مشاريع التبعية للخارج.
على مدار أكثر من ربع قرن مضى، رعت الجمهورية الاسلامية في إيران مشاريع التحرر الإسلامي والعربي، بدءاً من التركيز على محورية القضية الفلسطينية، مروراً إلى الوقوف إلى جانب مسلمي البوسنة والهرسك في التسعينيات، ودعم المقاومة الإسلامية في لبنان المستمر منذ الثمانينيات، والدعم اللامحدود لفصائل المقاومة الفلسطينية…. الممارسات الإيرانية لا الأقوال أحرجت السعودية، التي رأت في المواقف الإيرانية الداعمة لقضايا المسلمين تهديداً لنفوذ المملكة في الساحة الإسلامية.
لم يكن بمقدور السعودية أن تقابل الدعم الإيراني بدعم موازِ لمشاريع التحرر، ففي ذلك تهديد ما للسعودية التي كرست نظامها السياسي بدعم قوى الاستعمار الأجنبي… لم يكن بمقدور المملكة أن تعيد إثارة الشعار الإسلامي الجامع بوجه إيران الإسلامية، لم تجد السعودية إلا عنوانين: التحريض السني الشيعي الذي يمكن أن تحشد من خلاله على مستوى البلدان الإسلامية، وعروبة تعيد إنتاجها وتصنيعها بما يتلاءم مع استمرار نفوذ عائلة… اختطفت بلداً وسمته باسمها!
إسراء الفاس