نص المحاضرة الرمضانية السابعة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1441هـ 10-05-2020
أُعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ ألا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
وتقبَّل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.
اللهم اهدنا وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
في محاضرة اليوم نتحدث عن غزوة بدرٍ الكبرى، والتي كانت حدثاً مهماً وتاريخياً واستثنائياً ومفصلياً في تاريخ الأمة الإسلامية، وأسمى الله -سبحانه وتعالى- هذه الغزوة بـ(يوم الفرقان)، قال في القرآن الكريم في سورة الأنفال: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}[الأنفال: من الآية 41]، وهذه التسمية هي تعطينا فكرةً عن أهمية هذه الغزوة، وتقدِّم دلالةً مهمةً على ما مثَّلته هذه الغزوة من متغيرات ومن تحولات كبيرة في الواقع.
فما قبل غزوة بدرٍ الكبرى عاش المسلمون منذ بداية البعثة بالرسالة، وبداية تكوُّن الأمة الإسلامية من القليل من أبناء المجتمع في مكة، ثم امتد الدخول في الإسلام ليشمل مناطق متعددة، ولكن على نحوٍ محدودٍ جدًّا، وفي حالة من الاستضعاف والتكذيب والصد، وبأشكال متنوعة من الحرب الإعلامية، والحرب الاقتصادية، والمضايقات، والتعذيب، والاضطهاد، والمعاناة كانت كبيرة فيما قبل هذا اليوم بالنسبة للمسلمين.
وعاش الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- في مكة وهو يتحرك بالرسالة الإلهية، ويدعو إليها، ويبلغها إلى الناس، في ظروفٍ عصيبة، وفي مواجهة تحدياتٍ كبيرة، ومعاناةٍ حقيقية، المجتمع في مكة، وهو مجتمع قريش، وقريش هم قوم النبي -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله-، كان موقف أكثرهم من هذه الرسالة الإلهية هو الكفر، والتكذيب، والجحود، والصد، والمحاربة، وعملوا بكل ما يستطيعون على تثبيط الناس وتخذيلهم عن الالتحاق بهذا الدين العظيم، وكان قلقهم من هذه الرسالة: أنهم يدركون ما تمثِّله من أهمية، وأنها تصنع تغييراً حقيقياً في واقع الناس، وأنها منهجٌ يحرر كل من التزم به، وكل من آمن به من هيمنة كل القوى الأخرى، فهي تبني أمةً مستقلة على أساس منهج الله -سبحانه وتعالى-.
في مرحلة مكة بقي النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- في عمله في تبليغ الرسالة لثلاث عشرة سنة منذ بداية حركته بالرسالة، ثم هاجر إلى المدينة، وهناك كان عمله ينصب في تكوين مجتمعٍ جديد، ولكن مع كل ذلك- مع عمله هذا، مع جهوده هذه- كان لا يزال يواجه الصعوبات، وكانت تسود الناس في شتى المجتمعات العربية المخاوف وعدم الاطمئنان من إمكانية بناء هذه الأمة وتكوينها، وقلق كبير جدًّا تجاه مستقبل هذه الأمة، ومستقبل هذا الدين، ومستقبل الإسلام، فالكثير من الناس عندما كانوا يلحظون حجم ومستوى التحديات المحيطة بحركة النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- بالرسالة الإلهية، وكانوا يلحظون انتشار حالة التكذيب والصد من مختلف القوى المختلفة والمتنوعة في الساحة: الوثنيون من جهة، اليهود من جهةٍ أخرى، النصارى من جهةٍ ثالثة، البيئة كلها كانت بيئة غير مرحِّبة بهذا الدين، وغير متقبلة لهذه الرسالة العظيمة.
والظروف التي يتحرك فيها النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- ظروفٌ عصيبة، لم يكن يعتمد على إمكانيات- منذ بداية الدعوة- إمكانيات مادية ضخمة، أو إمكانات عسكرية، جاءت هذه الرسالة، جاء هذا الهدى يقدِّمه إلى الناس ويدعوهم إلى أتباعه من دون إغراءات مادية، يمتلك مثلاً ثروات ضخمة على المستوى الشخصي، أو على مستوى واقعه، ولم يكن منذ البداية يمتلك الإمكانات العسكرية الكبيرة، التي يرى الناس فيها سنداً لهذه الدعوة، ولهذه الرسالة، فأثَّرت المخاوف في الكثير من الناس، وجعلت الكثير منهم: إمَّا يتخاذل ولا يقبل بالالتحاق بهذه الرسالة، وإمَّا يُسلم، ولكن مع هذا الهاجس الضاغط عليه في إسلامه: الريب، القلق، عدم الاطمئنان، التردد، الاضطراب، التأثر بالمخاوف والدعايات والشائعات، القلق أمام هذه التحديات، وكذلك كان الآخرون من أعداء هذه الرسالة وهذا الدين، عندما يلحظون ظروف النبي -صلوات الله عليه وعلى آله-: إمكانات مادية بسيطة، قلة من الأنصار والأعوان، وأكثرهم من الفئة المستضعفة في المجتمع: من الفقراء، ممن لا يمتلكون إمكانيات ضخمة، ومع القلة، ومع الظروف الصعبة، ومع هذا الواقع الصعب، وتأثير العادات والتقاليد، ورسوخ تلك الأفكار الباطلة في أوساط المجتمع، حتى أصبحت من المسلَّمات التي يعتقدها الناس في واقع حياتهم، ويدينون بها، ويلتزمون بها، ويتشبثون بها، فكانت قوى الشرك، وقوى الضلال، وقوى الباطل المحاربة للنبي -صلوات الله عليه وعلى آله-، ولدعوته، ولرسالة الله، طامعة؛ لأنها تحسب أنها تمتلك الأوراق الرابحة في مواجهة هذه الرسالة وهذا الدين: تمتلك القوة العسكرية، تمتلك الإمكانات المادية الضخمة، تمتلك النفوذ في أوساط المجتمع والتأثير، تمتلك كذلك التأثير الإعلامي والفكري والثقافي في أوساط الناس، أفكارها هي المسلَّمات المنتشرة في الساحة، والتي أصبحت في كثيرٍ منها حتى إلى مستوى عادات وتقاليد.
أمام كل هذه الصعوبات وكل هذه التحديات، كان النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- يتحرك واثقاً بالله -سبحانه وتعالى-، متوكلاً على الله -جلَّ شأنه-، وهو- في نفس الوقت- يؤمن بهذه الرسالة، يؤمن بعظمتها، يؤمن بأهميتها، يؤمن بإيجابيتها في الواقع، وقد حمل روحيتها العالية؛ لأن هذا الدين العظيم يترك أثراً عظيماً في نفس الإنسان، في مشاعره، يعزز فيه اليقين، الثقة بالله -سبحانه وتعالى-، الاطمئنان، التوكل على الله، ينمِّي فيه مكارم الأخلاق، يبني فيه الروحية والمعنوية العالية، والنبي -صلوات الله عليه وعلى آله- هو الذي حمل كل ذلك على أرقى مستوى؛ فلذلك كان يتوكل على الله -سبحانه وتعالى-، ويثق بنصره، ويعتمد عليه، ويواصل كل جهوده أمام كل تلك الصعوبات وبقوة: قوة في الموقف، قوة في الثبات، قوة في الصمود، وعدم تأثر بكل تلك الضغوط؛ ولذلك وصل الأعداء معه في ضغوطهم، في استهدافهم، إلى مراحل خطيرة، قال الله -جلَّ شأنه-: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال: الآية 30].
فهذه التحديات الكبيرة التي كانت قائمة في الساحة، لم تثنِ النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ولم تضعف من عزمه، ولم تدفعه إلى التراجع، ولم تحد أو تضعف من عزمه وتوجهه ونشاطه؛ بل كان يتحرك بكل جد، وبكل اهتمام، وبكل مسؤولية، فجهوده في المدينة بدأت ثمارها، وبدأت النتائج الإيجابية تتحقق في تكوين هذه الأمة التي تحمل هذه الرسالة، وتتمسك بهذا الدين، والذي هو دين الفطرة، ودين الحق، كل ما فيه من أسس، من مبادئ، من تشريعات، هي حقٌ، وهي منسجمةٌ مع الفطرة البشرية؛ إنما كانت الفطرة قد تلوثت بفعل الممارسات والعقائد السلبية، والأفكار السيئة، والضلال المبين، والسلوكيات المنحرفة التي تعززت في الساحة، تشويش ثقافي وفكري على الفطرة هذه، وتدنيس سلوكي وعملي لهذه الفطرة، والنبي -صلوات الله عليه وعلى آله- جاء بهذا الدين الذي ينسجم مع هذه الفطرة، ويعيد إليها نقاءها.
فهذا الدين العظيم بحركة رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- الذي جسَّد فيها قيم هذا الدين، مبادئ الدين، عظمة هذا الدين، وامتلك بهداية الله -سبحانه وتعالى- وبالتربية والإعداد الإلهي له امتلك المقومات العملية الراقية جدًّا: امتلك الحكمة، امتلك الرشد، امتلك قوة البيان، وهو في أخلاقه على نحوٍ عظيمٍ جدًّا، لا مثيل له في الواقع البشري، فكان يتحرك وهو يمتلك هذه العناصر المهمة، التي هي في مقابل تلك التحديات هي عناصر قوة، فهو في مقابل أنه لم يمتلك الإمكانات المادية الضخمة، امتلك الأخلاق، امتلك الحق، امتلك قيم الإسلام، امتلك تلك الروحية العالية، امتلك الإيمان، والثقة بالله، والتوكل على الله -سبحانه وتعالى-، امتلك هذه الرسالة التي تنسجم مع الفطرة، والتي تمثل حلاً فعلياً لواقع البشرية؛ إنما كانت بحاجة إلى نموذج يبتني، ثم يقدِّم في واقع حياته وفي سلوك حياته هذا الدين، ثم تلحظ وتتجسد نتائج هذا الدين وإيجابية هذا الدين في واقع ذلك المجتمع، في واقع تلك النواة، في واقع تلك الأمة مهما كانت في البداية أمةً محدودة، أو قليلة العدد.
فرسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- تحرك وكما قلنا كانت المخاوف هي الحالة السائدة، كانت المعاناة من الاستضعاف، كانت الضغوط المؤثرة في كثيرٍ من الناس هي الحالة المنتشرة والسائدة؛ ولذلك بلغ عناد الأعداء، وبلغ مكرهم في محاربة هذا الدين، إلى ما قدم القرآن الكريم كثيراً من السور عنه، مثلاً: في عنادهم، يقدم لنا القرآن الكريم ما وصلوا إليه في مستوى عنادهم العجيب، {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال: الآية 32] إلى هذا المستوى من العناد: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، كانوا وصلوا إلى هذا المستوى من العناد، الذي يطلبون فيه إن كان ما أتى به النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- هو الحق، فأن يمطر الله عليهم حجارة من السماء، ويبيدهم، ويقضي عليهم، فهم يعبِّرون بهذا العناد عن عدم استعدادهم نهائياً لتقبل هذه الرسالة، ولم يصل الأمر فقط إلى هذا المستوى؛ وإنما اتجهوا إلى محاربتها، إلى منعها، إلى عدم السماح للناس بالإيمان بها، والالتفاف حولها، واتجهوا بالمؤامرة على شخص النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- وحاولوا استهدافه، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ}.
فبعد هجرة النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- إلى المدينة بدأ بتكوين هذه الأمة، وبدأ الأعداء تحركاتهم في الساحة لاستهدافه، وعدم السماح لهذه الأمة الناشئة بالاستمرار، ولهذا الدين بالاستمرار، وكانت لهم تحركاتهم الواسعة، واستعداداتهم الواسعة، تحركات لمضايقة النبي -صلوات الله عليه وعلى آله-، تحركات لحصار النبي وعزله في المدينة، والتحالف مع مختلف القبائل والمناطق، لتشكيل حركة واسعة لاستهداف النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- والحرب عليه، فكانت من الخطوات الأولى التي عملوها: الاتفاق مع كثيرٍ من القبائل على المقاطعة الاقتصادية للنبي -صلوات الله عليه وعلى آله-، ثم بدأوا ترتيباتهم واستعداداتهم العسكرية بهدف الزحف باتجاه المدينة.
رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- كان يدرك طبيعة هذه التحركات، وكان يتحرك بتوجيهات الله -سبحانه وتعالى- وتعليماته للتصدي لكل هذه التحديات والمخاطر، والله -سبحانه وتعالى- هو العليم بالواقع البشري، وهو -جلَّ شأنه- المدبر لشؤون السماوات والأرض، والصراع في هذه الحياة هو جزءٌ من واقع هذه الحياة، ولذلك كان الصراع مع أعداء هذا الإسلام، مع أعداء النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- والمسلمين، كان حتمياً، كان لا بدَّ منه، وهذا هو درسٌ مهمٌ نحرص دائماً على ترسيخه، وعلى التذكير به؛ لأن البعض أحياناً ينشرون مفاهيم خاطئة جدًّا، وخطيرة على الناس، خطيرة على الناس جدًّا، عندما يتجهون ويحاولون أن يروِّجوا في الساحة أنَّ الأمة ليست بحاجة إلى الجهاد، وأنَّ الجهاد لا ضرورة له، وأنه يمثل- بحد ذاته- مشكلة أمام الناس، وأنَّ بالإمكان أن يكون الناس مؤمنين، وصالحين، وطيبين، ومسلمين، ومن دون أن يواجهوا هذه المخاطر وهذه التحديات، وأن يستقر حالهم على ذلك ومن دون أي مشاكل.
نحن طالما نكرر التذكير بأن مثل هذه الأفكار هي ضالة، وساذجة، وغبية، وغير واقعية، وأنها- في نفس الوقت- خطيرة على الناس؛ لأنها تترك الناس في حالة من الجمود، وبعيداً عن الاستعداد، وتُعطِّل- في نفس الوقت- فريضةً من أهم الفرائض في الدين الإسلامي، وهي فريضة الجهاد في سبيل الله -سبحانه وتعالى-، وهي كذلك تدجِّن الناس وتخضعهم لصالح أعدائهم، وهذا ظلمٌ للناس، أنا أُوقن بأنَّ من أظلم الناس من يدجِّن الناس للأعداء، هذا ظلوم، ظالم، أي عالم، أي مثقف، أي أكاديمي، أي شخصية تتجه إلى الناس وتجعل من الجمود والركود والقعود والتخاذل ثقافةً، وسلوكاً دينياً، والتزاماً إيمانياً، وحالةً إيجابية، فهي تظلمهم بذلك، هي تضل وتظلم، لو كان ذلك متاحاً لكان أولى الناس بذلك هو رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، لكان أولى الناس بأن تتحقق له في واقع هذه الحياة يتحقق له استقرار الإسلام، وأمر الإسلام بدون مشاكل، بدون تحديات، بدون تضحية، بدون عناء… بدون أي شيء. مجرد دعوة ويستقر ويجلس، وتنتشر هذه الدعوة، وتستمر هذه الدعوة، وتنجح هذه الدعوة، وتقوم هذه الدعوة، ومن دون أي جهاد، ولا أي عناء، ولا أي تضحية، ولا أي مشاكل.
ما الذي كان ينقصه بنظر مثل هذا النوع من الناس، الذين لديهم هذه الفكرة؟ ما الذي كان ينقص رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-؟ هل كانوا يتصورون أنها تنقصه الحكمة، أنهم كانوا حكماء، فابتكروا طريقةً يحافظون بها على الإسلام، ويقيمون بها الإسلام، وتلتزم الأمة بالإسلام، من دون أي صدام مع أي أحد، من دون أي مشكلة مع أي أحد، لكن الرسول لم يمتلك هذه الحكمة التي امتلكوها هم؟! هل يتصورون هكذا؟! هل كان ينقصه الكمال والرشد وحسن التدبير؟ هل كان ينقصه السلوك الجذَّاب؟ هل كانت جاذبية الدعوة الإسلامية، وهي جذابة في واقعها وفي جوهرها، أو جاذبية الرسول في كماله وأخلاقه وسلوكه العظيم، وخلقه العظيم، فيه نقص؟ ما الذي كان ينقص؟ أم أنَّ الزمن فقط هو الفارق، فذلك زمنٌ كان فيه أعداء ألدَّاء يعارضون الإسلام، ومبادئه، وقيمه، ولا يسمحون للأمة الإسلامية أن تنشأ وتبني نفسها كأمة مستقلة، تتحرك في واقع حياتها وفي مسيرة حياتها على أساس تعاليم هذا الدين العظيم؟ أمَّا هذا الزمن فأصبحنا في ظروف مختلفة، وأصبحنا أمام واقع لا نواجه فيه التحديات، ولا الأعداء الخطيرين، والكل من حولنا يفتحوا لنا المجال أن ننشأ أمةً مستقلةً تبني مسيرة حياتها على أساس هذا الدين؟! لو قلنا أنهم يفكِّرون هذا التفكير فهذا مضحك؛ لأننا نعلم أنَّ المخاطر في هذا الزمن وأن التحديات كبيرة جدًّا، وأنَّ الواقع يشهد أن الأعداء يسعون بكل جهدهم إلى السيطرة على الأمة الإسلامية، والتحكم بها في كل شؤونها: على المستوى السياسي، على المستوى الاقتصادي… على كل المستويات، بل حتى على مستوى الخطاب الديني، والتثقيف، والتعليم، والمناهج، يتدخلون في كل شيء، وواقع المسلمين في هذا الزمن واقعٌ معروف، هناك أمريكا، وهناك إسرائيل تسعى بكل جهدها لضرب هذه الأمة، واستهداف هذه الأمة، وهناك الكثير معهم ممن يتحالفون معهم ويُناصِرَهم.
لو قلنا أنهم يعيشون حالة اليأس، يعني: يدركون أنه ليس بالإمكان بالفعل التحرك بشكل صحيح وسليم لإقامة دين الله -سبحانه وتعالى- والالتزام بتعليماته، وأن نبني واقعنا ومسيرة حياتنا على أساسه كأمةٍ مستقلة، لا نفوذ لأعدائها فيها، ولا سيطرة لأعدائها عليها، ولكنهم مع إدراكهم لهذه المخاطر والتحديات يائسون، يعني: يعتبرون أنه ليس بمقدورنا أبداً أن نتحرك، وأنه لا يمكننا أبداً أن ننجح في أن نتحرك حركةً على ضوء الاقتداء برسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، فنسعى لأن نبني واقعنا كأمةٍ مسلمة مستقلة تلتزم بتعليمات هذا الدين، وتسير على أساس هدي هذا الدين، وأنَّ حجم التحديات في هذا الزمن يحول دون ذلك، فهذا اليأس هو- بحد ذاته- أمرٌ خطيرٌ على المستوى الإيماني والديني؛ لأنه ينطلق من واقع المقارنة بيننا وبين الآخرين، بيننا وبين خصومنا، بيننا وبين أعدائنا، ويلغي- في نفس الوقت- حساب الله -جلَّ شأنه-، ولا يأخذ الدرس أيضاً من مسيرة النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- ومن حركته، أنه عندما انطلق وتحرك لم يكن يعتمد اعتماداً رئيسياً وكلياً على الإمكانات المادية، لا على العدد، ولا على العدة، وأنه انطلق من ظروف صعبة، وبإمكانات بسيطة، ولكنه كان يتوكل على الله -سبحانه وتعالى-، وكان يعتمد على الله -سبحانه وتعالى-، إضافةً إلى وجود الشواهد في زمننا هذا لقوى تحركت معتمدةً على الله -سبحانه وتعالى-، حققت انتصارات، منَّ الله عليها بالتأييد الإلهي، ولكن هناك نقطة هي من أهم النقاط: يجب علينا أن نعي جيداً أنَّ الجهاد في سبيل الله -سبحانه وتعالى- ليس عبئاً علينا جديداً في هذه الحياة، ومشكلةً إضافية، وخطراً؛ إنما هو حل، إنما هو ضرورة، إنما هو حاجة، وهذه النظرة التي هي غائبة عن الكثير من الناس نتيجة بُعدهم عن الاهتداء بالقرآن الكريم، وبُعدهم عن التأمل في الواقع.
الإسلام هو حلٌ لنا في حياتنا، والجهاد هو حلٌ لنا في حياتنا؛ لكي نكون أمةً مستقلةً، أمةً متحررةً من العبودية للطاغوت والاستكبار، من العبودية للظالمين والمجرمين، هناك في هذا الزمن المجرمون العالميون، قوى كبيرة تمتلك الإمكانات الهائلة، مستكبرة، ظالمة، مفسدة في الأرض، لا يمكننا أن نتحرر منها، ومن سيطرتها، ومن ظلمها، ومن طغيانها، ومن إجرامها، إلَّا إذا تحركنا وفق هذا التوجه الصحيح الذي يضمن لنا أن نحظى بنصر الله -سبحانه وتعالى- وتأييده ومعيته ومعونته، أن يكون، معنا وأن يؤيدنا بنصره.
فعلينا أن ننظر هذه النظرة الإيجابية، وأن نعود لدراسة التاريخ، ودراسة سيرة الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله-، على أساس الاهتداء بحركة رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، والاقتداء به، والاستلهام للدروس والعبر من سيرته، ومن حركته؛ لأن الله -جلَّ شأنه- جعله هادياً لنا، وقدوةً لنا، وأسوةً لنا في كل الأمور، وليس فقط في الأمور البسيطة، والسلوكيات الأخلاقية البسيطة، في جزءٍ من شؤون الحياة؛ إنما أيضاً في الأمور ما يعظم منها، وما نراه بسيطاً، وما نراه كبيراً، وما نراه صغيراً، قدوةً لنا في كل هذه الأمور.
من هنا نتطلع إلى هذا اليوم (يوم الفرقان) على أنه يومٌ فارقٌ في التاريخ، ويومٌ عظيم، ويومٌ مهم، أسس لمرحلةٍ جديدة، هو لم يكن نهاية المعركة مع الأعداء، هو كان بداية المعركة مع الأعداء، ولكنه أسس لمرحلة جديدة، ولنقلة جديدة؛ لأن الانتصار في هذا اليوم طمأن الكثير من الناس، عزز الثقة بالله، أعطى الأمل لكثيرٍ من اليائسين، غيَّر النظرة التي كانت ترى بأنه من المستحيل أن ينتصر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومعه جنوده، وهم في ذلك المستوى من الإمكانات المتواضعة والبسيطة، وهم في ذلك المستوى مما يعانونه من قلة العدد والعدة، في مقابل الأعداء وما يمتلكونه من قوة وإمكانات مادية، فهذا النصر أسهم في تغيير نظرة الناس، وفي طمأنتهم، وفي تعزيز الأمل والثقة، وغيَّر الموازين والمعادلات التي كانت قائمة في الساحة، وصنع معادلات جديدة في الصراع، وفي نفس الوقت وجَّه ضربةً مؤلمةً جدًّا للأعداء، وبالذات لقريش، الذين كانوا هم أول فئة في الساحة تتصدر لمواجهة الإسلام ومواجهة النبي -صلوات الله عليه وعلى آله-، وتخوض معه المعركة، هذا العدو الذي نزل إلى الميدان ليخوض المعركة العسكرية، وإلَّا هو كان يخوض الصراع في أبعاده وجوانبه الأخرى، لكنه عندما نزل المعركة العسكرية، فواجه فيها هذه الهزيمة القاسية، وقُتِل فيها الكثير من قاداته، ومن أبطاله، ومن جنوده، وأسر الكثير منهم، كانت ضربةً قوية ومؤثرة جدًّا، وأثَّرت فيما بعدها، واستمر تأثيرها فيما بعدها وصولاً إلى يوم الفتح، من يوم الفرقان إلى يوم الفتح (يوم فتح مكة)، من السنة الثانية للهجرة النبوية، إلى السنة الثامنة للهجرة النبوية، استمرت التأثيرات وبركات هذا اليوم، ثم استمرت وامتدت إلى عصرنا وإلى زمننا؛ لأن المعركة في بدر كانت معركةً مصيرية، كان التهديد فيها على النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- وتلك المجموعة معه من المسلمين الذين كانوا معرَّضين للإبادة، وكانت المعركة مصيرية بما تعنيه الكلمة.
فهذا اليوم (يوم الفرقان) الذي وصل فيه النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- واتجه إلى بدر، وعندما وصل إلى هناك كان يؤمِّل ومعه المسلمون أنهم إما أن يواجهوا إحدى الطائفتين: إمَّا أن يظفروا بالطائفة التي هي طائفة القافلة التجارية ومن معها، معها: أبو سفيان أهم شخصية قيادية للأعداء، ومعه أيضاً البعض معه لحماية القافلة، والقافلة كانت قافلة تجارية كبيرة يمكن أن تؤثِّر في الوضع الاقتصادي على قريش، وهم كانوا يريدون الاستفادة منها في تمويل عملية عسكرية كبيرة تستهدف النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- والمسلمين في المدينة، أو أن يظفِّرهم الله -سبحانه وتعالى- وينصرهم في مواجهة الجيش العسكري، الذي قد خرج أصلاً من مكة ووصل إلى بدر، ولهذا يقول الله -سبحانه وتعالى-: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}[الأنفال: 7-8]، كانت إرادة الله -سبحانه وتعالى- أن يظفر المؤمنون بالجيش العسكري، بالقوة العسكرية، بالطائفة التي خرجت لتقاتل، وليس بالقافلة التجارية، حكمة الله -سبحانه وتعالى- وفي تدبيره -جلَّ شأنه- أنَّ هذا هو الأهم: الظفر عسكرياً كان هو الأهم من الظفر بالقافلة التجارية ومعها الأسرى الذين كان بالإمكان أن يأسروهم.
وكما قلنا الكثير تغيب عنهم هذه الحسابات وهذه الاعتبارات: إيجابية الصراع العسكري، وما يترتب عليه من نتائج مهمة في الواقع، القرآن الكريم كم فيه من حديثٍ واسع يعطينا نظرةً واقعية، وفهماً صحيحاً لواقع الحياة، وللناس، يقدم التقييم للناس: أنَّ قوى الشر، قوى الإجرام، قوى الطغيان في الأرض من البشر، لا يمكن أبداً أن يدعوا من يريدون التحرك على أساس هدى الله، على أساس الاستقلال وبناء حياتهم ومسيرة حياتهم وشؤونهم على أساس تعليمات الله -سبحانه وتعالى-، لا يمكن أن يدعوهم وشأنهم، هم يسعون دائماً إلى الاستحواذ، إلى السيطرة، هم يعيشون حالة الطغيان، ويمارسونها في الواقع العملي: سياسات، ومواقف، وتوجهات، ويسعون إلى السيطرة على الآخرين، والسيطرة التي فيها ظلم، فيها ضلال، فيها إذلال، فيها قهر، فيها استعباد.
ولذلك فالرسالة الإلهية هي نعمة، هي رحمة من الله -سبحانه وتعالى-، هي عملية إنقاذ، وهي متكاملة، هي مشروعٌ متكامل، لا تلحظ فقط الجانب الروحي، أو تلحظ فقط الجانب السلوكي والأخلاقي، إنما هي تشمل كل ما يضمن للأمة أن تستطيع أن تقوم، أن تنهض، أن تتحرر، أن تحظى بالعدل، أن تدفع عن نفسها الظلم، أن تدفع عن نفسها الاستعباد، بل هذا من أعظم ما في الرسالة الإلهية، لو استبعدنا هذا الجانب، وأبقينا الحالة حالة طقوس معينة، يتكيف فيها الناس مع العبودية للطاغوت والاستكبار، وللمجرمين والظالمين والمفسدين في الأرض، لكانت المسألة نقصاً كبيراً جدًّا في هذا الدين، لكانت إيجابيته في الحياة إيجابية محدودة للغاية، محدودة للغاية، وهذا هو الواقع الذي كان عليه أهل الكتاب ماقبل الرسالة الإسلامة، ما قبل رسالة النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- والبعثة له، كانوا قد تكيَّفوا مع الواقع، كانوا قد استبْقوا فقط من الرسالة الإلهية- رسالة الله إلى عيسى، ورسالة الله إلى موسى- طقوساً معينة، وبعضاً من الشرائع، بعضاً من التعليمات المحدودة، مع تكيُّفٍ تام مع الطغاة، مع الظالمين، مع المجرمين، مع المفسدين، فأذهبوا عن الرسالة أهم ما فيها، وأفقدوها إيجابيتها في الحياة، لم تعد رسالة تعبِّد الناس تعبيداً كلياً لله، وتحررهم تحريراً كاملاً من العبودية لغيره، |لا| إنما دخلت فيها آفات وانحرافات وعملية تحريف، عملية تحريف وعملية انحراف عملي جعلتها تتكيف مع ذلك الواقع؛ حتى أفقدتها جدوائيتها في الحياة، نفعها في الحياة، إيجابيتها في الحياة، أثرها النافع للإنسان؛ فلم تعد رسالة خلاص، لم تعد رسالة إنقاذ، لم تعد رسالة تحرر، وهذا ما يريده الأعداء للإسلام، وهذا ما سعوا له في ضغوطهم على رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- في بداية رسالته، وهم عملوا بجهدٍ كبير أن يقنعوه أن يتكيَّف معهم كما الآخرين، مثلما هو حال أهل الكتاب، مثلما هو حال اليهود، وكان بالإمكان لو أراد النبي أن يتكيَّف معهم، أن يدخل في تعديلات لهذا الدين، لهذه الشريعة الإلهية، ويُذهِب منها جوهرها ولبَّها وأساسها، ثم يبقي منها طقوساً معينة، كما فعل أهل الكتاب وتكيَّفوا، لكنه لو فعل ذلك لكان ذلك جناية كبيرة على هذه الرسالة الإلهية، ولعاقبه الله -سبحانه وتعالى-، لما سمح له بذلك أبداً، وهو كان أبعد عن كل ذلك -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله-، وكان في إيمانه بهذه الرسالة، في ثباته عليها، في يقينه بها، في إيمانه العظيم بالله -سبحانه وتعالى- على نحوٍ لا يمكن أبداً أن يفكر فيه حتى التفكير: بأن يداهن، بأن يغيِّر، بأن يبدل، أو أن يتقوَّل، أو أن يتراجع أبداً.
الله -جلَّ شأنه- قال عنه: {وَدُّوا}[القلم: من الآية 9]، يعني: الأعداء، أولئك الأعداء، أعداء هذه الرسالة وهذا الدين، {لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}[القلم: من الآية 9]، ودوا منك يتمنون منك أن تداهنهم، وأن تجاملهم، {فَيُدْهِنُونَ}، فيقابلونك بذلك، تكون عملية مداهنة من الطرفين، ولكنه كان صلباً في ثباته، وقوياً في تمسكه بهذه الرسالة، وهذا ما أثمر- في نهاية المطاف- ثمرةً طيبةً، وثمرةً عظيمة، وحقق نقلات كبيرة جدًّا من بداية أمر الدعوة الذي تحرك فيه الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- بدايةً عجيبةً جدًّا، الواقع العالمي من حوله مظلم، الأفكار، والمفاهيم، والعادات، والتقاليد، والاعتقادات، وواقع الحياة بكله، التركيبة السياسية، التركيبة الاجتماعية… الواقع من حوله بكله واقعٌ مظلم، لكنه تحرك بهذه الرسالة، وبهذا النور، وبهذا الهدى، بعزمٍ وإيمانٍ ويقينٍ وثباتٍ عظيم، فبدأت التغيرات والنقلات من مرحلة إلى مرحلة إلى مرحلة، وصولاً إلى يوم الفرقان.
إن شاء الله نتحدث عن بعض التفاصيل المهمة والدروس المهمة في محاضرة الغد على ضوء ما ورد في الآيات القرآنية، وما يستلهم منها من دروس في هذا الواقع الذي نعيشه نحن، في مواجهة هذه التحديات التي تواجهنا في هذا الزمن وفي هذه المرحلة.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
أشترك على قناة أخبار تعز تلغرام وكن أول من يعلم الخبر فور حدوثه