نص كلمة السيد القائد بمناسبة استشهاد الإمام علي -عليه السلام- 1440هـ
تعز نيوز- متابعات
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَلِكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عَبْدُه ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وباركت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارض اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
وتقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال، اللهم اهدنا وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
ذكرى استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عليه السلام- هي ذكرى لأعظم نكبةٍ نكبت بها الأمة الإسلامية من بعد وفاة رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- الإمام عليٌّ -عليه السلام- فيما يعنيه لنا كمسلمين في كماله الإيماني العظيم، وفيما يعبِّر عنه في الإسلام كامتدادٍ أصيلٍ، وامتدادٍ عظيمٍ لحركة الإسلام، لحركة الهداية في الأمة، كامتدادٍ أصيلٍ يعبِّر عن الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- في مواصلة العمل على هداية الأمة، وقيادة الأمة من موقعه الذي عبَّر عنه الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- في حديثه المشهور بين الأمة: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي).
والإمام عليٌ -عليه السلام- فيما نتج عن استشهاده من تأثيرات خطيرة في واقع الأمة، مكَّنت حركة النفاق من الوصول إلى مقاليد الحكم، والسيطرة على شؤون هذه الأمة بكل ما ترتب على ذلك من كوارث كبيرة، وانحراف رهيب بمسار أمتنا الإسلامية، فلذلك كانت نكبةً عظيمةً للأمة.
وعندما شبه الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- قاتل الإمام عليٍ -عليه السلام- بعاقر الناقة: ناقة نبي الله صالح في ثمود، كان بالفعل تشبيهاً دقيقاً؛ لأن قاتل الإمام علي -عليه السلام- جلب الشقاء على هذه الأمة، وغيَّب عن الساحة الإسلامية شخصيةً كانت تمثِّل الضمانة لاستمرارية حركة الإسلام بشكلٍ صحيح وبشكلٍ كامل.
الأمم بكلها تحتفي وتمجِّد عظماءها وقادتها، وصانعي الإنجاز فيها، ولكل أمةٍ من الأمم قادتها الذين تتأثر بهم، تنتمي إليهم، تعتبرهم أصحاب اسهامٍ أساسيٍ في بنائها، وأصحاب إنجازات كبيرة في واقعها، فهي تحتفي بهم وهي تتأثر بهم: بأفكارهم، بمواقفهم، بتضحياتهم، بأدوارهم، وترتبط بهم من موقع الاستلهام، وموقع الاقتداء، وموقع التمسك، وموقع الارتباط بنهجهم وأفكارهم وتراثهم، ويكون لذلك أثر كبير في واقعها: إما سلباً، وإما إيجاباً، بحسب أولئك القادة الذين تتأثر بهم، هذا هو الواقع البشري، ما من أمةٍ إلا وهي على هذا النحو: ترتبط بقادة، ترتبط برموز، ترتبط بأعلام لها، وتتأثر بهم، وتقتدي بهم.
نحن كمسلمين عندما نعود إلى مسيرة الإسلام العظيمة نجد موقع عليٍ -عليه السلام- الموقع العظيم الذي عبَّر عنه الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- من جانب، والذي شهد به التاريخ في حركة علي، في عمل علي، في مواقف علي من جانبٍ آخر، وعندما نتحدث عن الإمام عليٍ -عليه السلام- فهناك جانبان أساسيان للحديث عنه كشخصيةٍ عظيمةٍ في الإسلام:
الأول: فيما كان يمثِّله الإمام علي -عليه السلام- من نموذج، وفي التعبير القرآني (الشاهد)، عندما قال الله -سبحانه وتعالى-: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ}، وهو هنا يتحدث عن الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} [هود: من الآية17]، الإمام عليٌ -عليه السلام- كان هو الشاهد الذي قدَّم في واقعه هو الشهادة على عظمة هذا الإسلام، هو النموذج الذي ارتبطت به الثمرة المهمة لجهود الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- وتربيته، وتقديمه للإسلام في أثره في الناس، في أثره في أتباعه، في المتمسكين به، في المهتدين به، فالإمام عليٌ -عليه السلام- إلى جانب أنه قدَّم في واقعه العملي، وفي مسيرة حياته قدَّم الشاهد على إمكانية التطبيق لهذا الدين، وعلى- كذلك- إضافةً إلى إمكانية التطبيق العملية الصحيحة للتطبيق، والأثر الصحيح لهذا الدين في نفسه، في وجدانه، في أخلاقه، في اهتماماته العملية، في سلوكياته، في مواقفه، في أفكاره، في ثقافته، في ما كان يقدمه للأمة، ولأنه كان على هذه النحو العظيم: الشاهد للرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- للإسلام في أثره العظيم في الإنسان على المستوى التربوي، على المستوى الأخلاقي، على المستوى الفكري والثقافي، على المستوى العملي، نستطيع القول: بأن الإسلام صنع من عليٍ شخصيةً قدَّمت أرقى صورة عن الإسلام، وتجلى فيها الإسلام في الإنسان، كيف هو أثره، كيف هو صنعه في هذا الإنسان، وهذه مسألة مهمة جدًّا تعني لنا الكثير كمسلمين؛ لأنها تقدِّم جاذبية الإسلام، وتقدِّم عظمة الإسلام الذي نحن في أمسِّ الحاجة أن ننظر إليه نظرةً صحيحة، البعض مثلاً ينظرون إلى الإسلام كدين إما نظرةً خاطئة: عندما يتقمصون شخصيةً على ضوئها تطلع شخصيةً مشوهة، تسيء إلى الإسلام بأكثر مما تقدِّم شهادةً لهذا الإسلام، والبعض قد يحملون العقدة تجاه عظمة هذا الإسلام، وقد يبحثون عن بدائل، ولو لم يكن عن الإسلام بشكلٍ كلي، ولكن في جوانب كثيرة من هذا الدين، قد يبحثون لبدائل هنا أو هناك، وهذا الذي يحدث في واقع الأمة: أن البعض يتأثر أو ينظر ويستقرأ في ساحتنا الإسلامية في نماذج مشوهة، قدمت صورةً سلبية عن الإسلام، أو صورةً ناقصة، فهو: إما أن يرى الإسلام مشوهاً، وإما أن يرى الإسلام ناقصاً، هذا وذاك يدفعه إلى التوجه هنا وهناك للبحث عن بدائل في الفكرة، في الرموز، في المسارات العملية، في قضايا مهمة جدًّا، ولكن ينبغي لنا كمسلمين أن نعرف أن الإمام علياً -عليه السلام- هو شخصية إسلامية، أن لا تمثل الانقسامات المذهبية أسواراً على البعض، أو قيوداً تكبِّل البعض من الاستفادة من هذه الشخصية العظيمة التي هي إسلامية، للمسلمين جميعاً، وتعبِّر عن الإسلام العظيم، هذا الدين العظيم الذي نرى أثره في شخصية عليٍ -عليه السلام- في كل مجالٍ من مجالات الحياة.
عليٌ -عليه السلام- كان في هذ الدين هو السابق، هو أول الأمة إسلاماً، وإسلاماً من غير أن يسبقه شرك، وكانت هذه ميزة في كل الذين أسلموا واتبعوا رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- ميزةً فريدة، الإمام عليٌ -عليه السلام- حظي بما لم يحظ به غيره من الاختصاص بالرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- الرسول هو الذي قام بتربيته منذ أن كان طفلاً صغيراً، وعاش في كنف رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وبقابلية عالية جدًّا في نفسه هو، في مسيرة حياته العجيبة والفريدة، وهو الذي فتح عينيه أول ما ولد في الكعبة المشرفة، في بيت الله الحرام، ثم- فيما بعد ذلك- حظي في طفولته المبكرة بتربية الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- تربيةً على مكارم الأخلاق، تربيةً على القيم الفاضلة، وبقابليةٍ عالية، تأثر بهذه التربية العظيمة، تركت فيه الأثر الكبير.
وعندما بدأت مسيرة الإسلام في الرسالة الإلهية كان هو خير وأكثر الناس تقبلاً، وأكثر الناس تهيئةً لحمل الرسالة في هذا الدين، والتأثر بها من موقع الإتباع، من موقع الإيمان بالرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- والاهتداء برسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- بهذه القابلية العالية لإنسانٍ لم يتدنس بدنس الشرك، لم يتأثر بالعهد الجاهلي لا في نفسه، ولا في سلوكه، ولا في وجدانه، وفي بيئةٍ عظيمةٍ، بيئةٍ سليمةٍ، بيئةٍ صالحة، في جو التربية النبوية، جو التربية التي حظي بها عند رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-.
نشأ الإمام عليٌ -عليه السلام- وبدأ مسيرته مع مسيرة الإسلام من يومه الأول، فكان ذلك الذي حظي بارتقاءٍ عظيمٍ في هذا الإسلام، لا يماثله غيره من المسلمين من أتباع الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- ونشأ نشأةً عظيمةً، وتميَّز بإسهاماته الكبيرة تحت قيادة الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- فكان على مستوى الجهاد وعلى مستوى العمل لإقامة الإسلام ذو إسهامٍ كبير جدًّا، وتأثير كبير جدًّا.
عندما نأتي إلى جانبٍ من جوانب الإيمان، وجانبٍ يمثِّل إسهاماً عظيماً في حركة الرسالة وهو الجهاد في سبيل الله، نجد أنَّ الإمام علياً -عليه السلام- تميَّز على نحوٍ عظيم بين الأمة الإسلامية، بين المسلمين بكلهم، في عطائه العظيم، وجهاده الكبير، فهو في هذا الدين الفدائي الأول، وهو في هذا الإسلام الذي أتت الآية القرآنية المباركة عندما قال الله -سبحانه وتعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: الآية207]، ليكون هو المصداق الأول لهذه الآية المباركة.
في مرحلة مكة- وهي مرحلة حساسة جدًّا– كانت إسهاماته مهمة ومبكرة، وكان حضوره للمبيت في فراش النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- ليلة الهجرة عمليةً فدائية بكل ما تعنيه الكلمة، نفَّذها بكل رحابة صدر، وبكل رغبة، واستحق بها وساماً عظيماً، ومثَّل بها إيمانه العظيم، وعبَّر عن هذا الإيمان الصادق باستعداده العالي للتضحية في كل المواطن، وفي كل المقامات، وفي كل المواقف التي تستدعي هذا الاستعداد التام للتضحية، وأن يكون الإنسان بالفعل في موقع التضحية.
الإمام عليٌ -عليه السلام- كان أعظم جنديٍ من جنود رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- جندياً عظيماً، وقائداً عظيماً في كل المهمات القيادية التي حرَّكه فيها الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- وكان أعظم قائدٍ عسكريٍ في بطولته العظيمة، وفي إنجازاته العسكرية الكبيرة، وفي إسهاماته الكبيرة، فأشاد به القرآن، وأشادت به الملائكة حتى هتف هاتفهم في يوم أحد: (لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي).
وسجَّل له التاريخ أعظم المواقف تضحيةً وبطولةً، وبسيفه جندل أبطال الكفر، وصناديد الشرك، وكل الذين يمثِّلون عقبةً كبيرةً، وتحدياً خطيراً ضد الإسلام، إسهاماته في بدر ومواقفه العظيمة التي سجَّل بها المؤرخون له أكبر رصيدٍ وأعظم إسهامٍ بين كل جنود الإسلام، وهو يستبسل استبسالاً عظيماً منقطع النظير في معركة بدر كجنديٍ للرسول -صلوات الله عليه وعلى آله-.
أما في يوم أحد فكما قال جبريل -عليه السلام- فيما روته الأمة عن الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- ورسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- في أحرج المواقف، وهو بين يديه يستبسل استبسالاً لا مثيل له، يتصدى للكتائب التي تأتي بهدف الوصول إلى الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- وقتله، وقد أثخن بالجراح، فكان الإمام عليٌ -عليه السلام- يتصدى لكل كتيبة، ويقتل قائدها، ويفرِّق جمعها، تأتي الكتيبة الأخرى فيثب وثبة البطولة والاستبسال والتفاني للتصدي لها بما يمتلكه أيضاً من قدرات عسكرية عظيمة، وبما يمتلكه من رصيدٍ إيمانيٍ عظيم، جعل منه أعلى مثالٍ في جنود الإسلام للاستبسال والتفاني، فيتصدى لتلك الكتيبة الأخرى… وهكذا. فيقول جبريل -عليه السلام- معجباً من هذا المستوى العالي من التفاني والاستبسال: (إنَّ هذه لهي المواساة)، فيقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إنَّه مني وأنا منه)، فيقول جبريل -عليه السلام-: (وأنا منكما)، ما أعظم هذا الشرف الكبير والعظيم، ثم في غزوة خيبر، في الأحزاب كذلك، في كل غزوات الإسلام الكبرى، وفي كل المقامات التاريخية والمفصلية، وفي حنين، في كل المواقف الحسَّاسة، حتى كان الإمام عليٌ -عليه السلام- في مقدمة مصاديق الآية المباركة: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: من الآية23]، فسجَّل التاريخ له أعظم انجاز وأكبر إسهام كجنديٍ عظيمٍ بين جنود الإسلام وجنود الرسالة الذين كانوا تحت قيادة الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- وبطولته كانت بطولةً جمع فيها بين الفطرة والغريزة والإيمان، فكانت على مستوىً عظيم لا مثيل له في جنود الإسلام بكلهم.
أما في شخصيته في الأبعاد الأخرى والجوانب الأخرى، والإمام عليٌ -عليه السلام- تميَّز بالتكامل بما لا يوجد لدى غيره من جنود الإسلام، فيما هو قائدٌ عسكريٌ عظيمٌ، بل أعظم قائد عسكري من المسلمين من أتباع رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وأعظم جندي قبل أن يكون قائداً كذلك، ومقاتلٌ لا مثيل له بين المسلمين، وبين أتباع رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- بشخصيته العسكرية تلك، وعادةً ما تكون الشخصية العسكرية يغلب عليها طابع معين، إلَّا أنَّ شخصية الإمام علي -عليه السلام- كانت شخصيةً تكاملت بتكامل الإسلام في كل مجالات الحياة، في كل تأثيراته الأخلاقية الأخرى، في كل جوانبه المهمة، فهو إلى جانب ذلك الشخصية العلمية العظيمة الذي استوعب الإسلام فكراً وثقافةً وعلماً بما لم يستوعبه غيره من أتباع رسول الله وتلاميذ رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- فهو كما عبَّر الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- في قوله: (أنا مدينة العلم، وعليٌ بابها)، كان هو باب مدينة علم النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- هو الأذُن الواعية الذي كان المصداق الأول لقول الله -سبحانه وتعالى-: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: من الآية12]، فكان الإمام عليٌ -عليه السلام- بدعوة رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- أول مصداق لهذه الآية المباركة، وأعظم مصداق من أبناء الأمة، أعظم من وعى واستوعب هذا الدين فكراً أيضاً وثقافةً ومعرفةً، فكان هو باب مدينة علم النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- وهو الذي كان يحرص ألَّا يغمض له جفن في كل يوم إلا وقد استوعب ما نزل من القرآن الكريم، ما نزل من توجيهات الرسول، وما قدمه الرسول في ذلك اليوم من الهدى والمعارف الإسلامية، وفي هذا المجال كم للإنسان أن يتحدث عن علمه، عن معرفته، عن ثقافته، عن موقعه في الهداية، في هداية الأمة، نتحدث- إن شاء الله- عندما نصل إلى الحديث عن قول الرسول: (عليٌ مع القرآن، والقرآن مع علي)، عن قوله: (عليٌ مع الحق، والحق مع علي).
والإمام عليٌ -عليه السلام- وهو باب مدينة العلم، وهو الذي يقول: (علمني رسول الله ألف بابٍ من العلم، كل بابٍ يفتح لي ألف باب)، معارف واسعة جدًّا جدًّا، وإلى جانب ذلك الذي عرف بإنسانيته العظيمة، بروح التضحية والعطاء والإحسان، فهو مع كونه شخصية عسكرية، إلا أنه محسنة، كان أرقى نموذج بين المسلمين، بين تلاميذ رسول الله، بين أتباع رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- في مستوى الرحمة، والإحسان، والحنو، والعطف على الفقراء والمساكين والضعفاء، والأعلى أخلاقاً وتواضعاً وفي تعامله الراقي مع أبناء الأمة، لم يكن شخصيةً فظةً غليظةً من واقع أنه أيضاً شخصية عسكرية كبيرة، فيكون في التعامل مع الآخرين في واقع الأمة، مع إخوته ورفاقه من المؤمنين يتعامل بفظاظة أو بغلظة أو بخشونة. لا، كان مشهوراً جدًّا بأخلاقه العالية، حتى لقد رماه أعدائه بأن فيه دعابة، وهم يقصدون دماثة الأخلاق واللطف في التعامل، وانعدام حالة الخشونة فيه والجفاء في أسلوبه في التعامل، فكان هو الذي يتعامل وهو ذلك الذي يحمل الابتسامة، ويتخلَّص من حالة العبوس، ويقابل الناس بالبشاشة وبحسن الخلق، كان عليٌ -عليه السلام- لدرجة عالية، ليس هذا فحسب إنما في العطاء، كان هو ذلك الذي وهو صائم ومحتاجٌ إلى الطعام الذي لا يمتلك غيره وقد قدَّمه للسائل، للفقير، للمسكين وللأسير ولليتيم؛ فصدَّر القرآن الكريم عنه في سورة الإنسان، حتى اسم هذه السورة التي عبَّرت عن أرقى نموذج إنساني بين أتباع الرسالة الإلهية كان: الإمام عليٌ -عليه السلام- والزهراء -عليها السلام- والحسن والحسين -عليهما السلام- كانوا هم النموذج الراقي المعبر عن الإنسانية في كمالها الأخلاقي والإنساني.
ولذلك الإمام عليٌ -عليه السلام- في كل جانب من جوانب الحياة كان شخصيةً فريدة، نرى فيه عظمة هذا الإسلام، وأثر هذا الإسلام، كيف يصنع من الإنسان إنساناً تتكامل فيه المواصفات الإنسانية والأخلاق الإنسانية، ويتحول بعظمة هذا الدين إلى إنسانٍ له أثره الإيجابي في واقع هذه الحياة، إسهاماته الإيجابية والمثمرة والعظيمة في واقع هذه الحياة، فاستحق الإمام عليٌ -عليه السلام- أن يكون هو- كما عبَّر القرآن الكريم- (الشاهد)، وقُدِمَ له أيضاً وسامٌ آخر في القرآن الكريم هو (صالح المؤمنين)، وآيات كثيرة كان الإمام عليٌ -عليه السلام- أرقى نموذج لمصاديقها، حتى قال ابن عباس: (ما من آيةٍ فيها ثناء على المؤمنين إلا وعليٌ أميرها وشريفها)، بهذا المعنى لكلام ابن عباس.
المعلم الآخر الذي نتحدث عنه فيما يعنيه عليٌ لنا: هو أنه يمثِّل الامتداد الأصيل لحركة الهداية في الأمة ما بعد وفاة رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وفاة النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- وغيابه من بين المسلمين يمثِّل خسارةً رهيبةً للأمة الإسلامية وللبشرية بكلها، ومثَّل أيضاً ختاماً للنبوة، وانقطاعاً لنزول الوحي في التشريع وفي حركة التشريع الإلهي، ما بعد هذه المرحلة وهي مرحلة مهمة من تاريخ البشرية، النبي بنفسه -صلوات الله عليه وعلى آله- تحدث عن فتن مظلمة كقطع الليل المظلم تقدم عليها الأمة بنفسها، ما بالك بالواقع البشري، وتحدث عن جاهليةٍ أخرى قادمة هي أخطر وأسوء وأظلم من الجاهلية الأولى، في ظل هذا المستقبل الحساس والخطير والمهم للأمة، هل انقطعت مسيرة الهداية في واقع الأمة وانتهت، وبقيت هذه الأمة في حالة من الضياع والانفلات. لا، الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- وجَّه الكثير والكثير من الخطابات المهمة والكلمات المهمة جدًّا، المهمة لمستقبل الأمة، والمهمة لما بعد وفاته -صلوات الله عليه وعلى آله- بدءاً من قوله عن عليٍ -عليه السلام-: أنه منه بمنزلة هارون من موسى، وكذلك في قوله للمسلمين: (إِنَّ اللهَ مَولَاي، وَأَنَا مَولَى المُؤمِنِين، أَولَى بِهِم مِنْ أَنفُسِهِم، فَمَن كُنتُ مَولَاه، فَهَذَا عَلِيٌّ مَولَاه)، وكل المسلمين نقلوا- بمختلف مذاهبهم- هذا النص النبوي المهم جدًّا للمسلمين، (فَمَن كُنتُ مَولَاه، فَهَذَا عَلِيٌّ مَولَاه، اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاه، وَعَادِي مَنْ عَادَاه، وَانصُر مَنْ نَصَرَه، وَاخذُل مَنْ خَذَلَه)، عندما قال الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله-: (عليٌ مع القرآن، والقرآن مع علي)، وكذلك في قوله: (عليٌ مع الحق، والحق مع علي).
فقوله: (عليٌ مع القرآن، والقرآن مع علي) يعبِّر لنا عن امتداد حركة الهداية في الأمة في هذا الاقتران ما بين عليٍ والقرآن، وأنَّ الإمام علياً -عليه السلام- هو الذي يمثِّل الامتداد لحركة الهداية في الأمة، واقترانه بالقرآن اقتران الهداية، القرآن هو مصدر الهداية، مصدرٌ أساسيٌ من مصادر الهداية للأمة: {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: من الآية9]، الله يقول عن القرآن الكريم: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: من الآية185]، يقول عن القرآن الكريم: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: من الآية2]، فالقرآن هو مصدر الهداية، وإلى جانبه الإمام علي -عليه السلام- هو الذي يستوعب هذا القرآن، هو المؤتمن على تأويله كما قال الرسول عن الإمام علي -عليه السلام-: أنه سيقاتل على تأويل، كما قاتل الرسول على تنزيله، فالإمام عليٌ -عليه السلام- هو المستوعب لهذا القرآن بما لم يستوعبه غيره من تلاميذ رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وهو المؤتمن على تأويل هذا الكتاب، وهو المؤتمن في تقديم مفاهيم هذا القرآن بشكلٍ صحيح، بشكلٍ نقي، يوم تختلف الأمة ليس على التنزيل وإنما على التأويل، يوم تختلف الأمة على التفسير، على المفاهيم كيف هي، على مدلول هذه الآية وما تعنيه هذه الآية، الإمام عليٌ -عليه السلام- كما يقول الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- وكما ينبه الأمة على ذلك هو المؤتمن، هو الأعلم، هو الأوثق، هو حلقة الوصل المؤتمنة، ولذلك الحجة قائمةٌ على الأمة؛ لأن الله يعلم أن حال هذه الأمة كحال سابقاتها من الأمم، ما بعد أنبيائها تختلف وتتنازع، تختلف على المفاهيم في الرسالة الإلهية، في الدين الإلهي؛ وبالتالي تتفرق وتتنازع وتتناحر، وينشأ عن ذلك مشاكل كبيرة في واقع الأمم.
فالرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- عندما قال: (عليٌ مع القرآن، والقرآن مع علي) يؤكِّد استمرارية مسيرة الهداية بهذا الاقتران، عندما قال: (عليٌ مع الحق، والحق مع علي) يؤكِّد كذلك على هذا الاقتران، فعليٌ هو الأعلم بالحق، وهو الذي حمل الحق، وهو الذي يهدي بالحق، وهو الذي يقدِّم الحق يوم تختلف الأمة على الحق، يوم تتنازع الأمة في داخلها على المفاهيم المعبِّرة عن الحق، عن المواقف الحق، عن المسارات الحق، على التوجهات الحق، يبقى عليٌ -عليه السلام- في هذا الموقع العظيم والمهم جدًّا، ويبقى الإمام عليٌ -عليه السلام- المَعلَم المهم جدًّا في التصدي لحركة النفاق، وحركة التحريف، وحركة الانحراف في داخل الأمة.
إنَّ الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- عندما قال: (لَا يُحِبُكَ إِلَّا مُؤمِن، وَلَا يُبغِضُكَ إِلَّا مُنَافِق)، هو أيضاً يبين مقام الإمام علي -عليه السلام- في الأمة في كونه معلماً مهماً لأصالة الإسلام النقية؛ لأن حركة النفاق في الأمة هي أخطر حركة على الأمة، هي الحركة التي تنحرف بالأمة في مواقفها فتتجه بها بعيداً عن أصالة الإسلام، بعيداً عن مبادئ الإسلام الحقيقية، وبعيداً عن مشروع الإسلام العظيم الذي يجعل منا أمةً مستقلةً على أساس مبادئها العظيمة، وأخلاقها العظيمة، وشرعها العظيم الذي هو من الله -سبحانه وتعالى- حركة النفاق هي تقدِّم قوالب مختلفة، وتصيغ أشكالاً مزيفة تعبِّر عن الإسلام بتزييف وليست بحقيقة، ثم تتجه بالأمة نحو التبعية لأعدائها، وهذا هو أخطر أمر تعاني منه الأمة عندما تزيف مسيرة الإسلام، عندما يأتي التزييف والتحريف إلى داخل المفاهيم فتبقى تأخذ عنوانها الإسلامي، وطابعها وشكلها الإسلامي، وهي في واقع الحال إنما هي مختلفة.
فالإمام عليٌ -عليه السلام- كان هو الشاهد، كان هو- قبل ذلك- السابق، وكان هو- بعد ذلك- الامتداد الأصيل في حركة الهداية في الأمة، كان استشهاده -عليه السلام- وتغييبه عن الساحة في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ الأمة يمثِّل خطورةً كبيرةً جدًّا، وأدخل الأمة في عهدٍ ظلاميٍ من الجور، من التسلط الأموي الذي عبَّر عنه الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- فيما يفعله أولئك بالأمة من اتخاذهم لدين الله دغلا، ولعباده خولا، ولماله دولا.
نحن في هذا الزمن والأمة تعصف بها الفتن وتواجه التحديات الكبيرة جدًّا أحوج ما نكون إلى استحضار عليٍ -عليه السلام- على هذا الأساس: من استحضاره كنموذج، كشاهد، ومن استحضاره أيضاً كمعلم من معالم الهداية، اقترن بالقرآن الكريم، فكان هو الامتداد الأصيل لنرتبط بالإسلام في أصالته، ولنواجه حركة النفاق، وهي اليوم تنشط في ساحة الأمة على نحوٍ غير مسبوق، تتمثل بحكومات وأنظمة واتجاهات تحاول أن تفرض نفسها كلياً على الساحة، وتحاول أن تسيطر على كل أبناء الأمة، لتتجه بهم نحو التبعية لأعدائهم.
هذه المرحلة مرحلة مهمة جدًّا، الأمة بحاج أيضاً على المستوى الثقافي والفكري إلى الاهتمام بعليٍ -عليه السلام- وبموروث علي المعبر عن حقيقة الإسلام ومبادئ الإسلام، إلى رمزية عليٍ من جديد.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجزي الإمام علياً -عليه السلام- خير الجزاء في اسهاماته العظيمة في صدر الإسلام وما بعد وفاة النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وأياكم لما يرضيه، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
أشترك على قناة أخبار تعز تلغرام وكن أول من يعلم الخبر فور حدوثه