الموقع الاستراتيجي للـيَـمَـن.. أساس المطامع الأمريكية وأهم أسباب العُـدْوَان
بحُكمِ موقعها الاستراتيجي الهامّ وثرواتها الضخمة والمتعددة المصادر، كانت الـيَـمَـنُ ولا تزال محطةً لمطامع كُلّ الدول الاستعمارية، وملعباً لصراع الأقطاب العالمية؛ ونظراً لغياب مشروع الدولة المستقلة، البعيد عن هيمنة أحد تلك الأقطاب، جعل هذه النعمة تتحوَّلُ إلَـى نقمةٍ تجر الويلات على أبناء شعبها.
عندما تتحدَّثُ مراكِزُ الدراسات أو الباحثين، عن الـيَـمَـن، تجدُ أن أَهَميَّةَ موقعها في خارطةِ الإطلالات الإستراتيجية هي صُلب دراساتهم أو حديثهم؛ كون الحديثِ عن الـيَـمَـن وفق زوايا الرؤى الجيوسياسية لديهم ينحصرُ في موقعها الجغرافي الاستراتيجي، وهذا ما يجعلُ الغالبيةَ من المراقبين أو المهتمين بالشأن الـيَـمَـني من الداخل أو الخارج يركّزون على هذه الزاوية من الرؤية؛ لإدراك ماهيّة الصراع التنافسي بين محاور القوى العالمية في كيفية تثبيت مواطئ أقدامها في هذا البلد، ولمعرفة خارطة طموحات تلك المحاور وأطماعها المبيَّتة والمعلنة.
أَهَميَّةُ الموقع الجغرافي للـيَـمَـن
تقع الـيَـمَـن في الجزء الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية، أي في جنوب غرب آسيا، ومن خلال مشاهدة الخريطة يتضح لنا جلياً أن الـيَـمَـن تُعتبَرُ أحَدَ أهمِّ بوابات المنطقة، باعتبارها المتسيّدةَ على البوابة الجنوبية للشرق الأوسط، وما يضاعفُ أَهَميَّةَ موقعها، إطلالتُها المباشرة التي منحتها السلطة على أهم مضيقٍ في العالم وهو مضيق باب المندب الذي يتحكم بالمنطقة المائية البحرية التي تفصلُ قارة آسيا من ناحية الشرق وإفريقيا من ناحية الغرب، وتربط المحيط الهندي وبحر العرب بالبحر الأبيض المتوسط، ومن خلال التمعُّن في الخارطة، نلاحظُ انتشارَ جُزُرَها في مياهها الإقليمية على امتداد بحر العرب وخليج عدن والبحر الأحمر، وهذا ما عزز سلطتها على هذا المضيق الحيوي.
واكتسب هذا المضيق أَهَميَّتَه الاستراتيجيةَ منذ افتتاح قناة السويس عام 1869م، ووفَّرت طبيعة الجغرافيا للـيَـمَـن بامتلاكه هذا الموقع سلطةَ التحكم به، دون أن تكونَ بالضرورة تملك القوة لذلك؛ باعتباره المدخلَ الوحيدَ للبحر الأحمر، إضافةً إلَـى التداخل الوثيق بين مضيق باب المندب ومضيق هُرمُز، باعتبارهما طريقَين للناقلات المحملة بنفط الخليج باتجاه أوروبا، ناهيك عن اعتباره الحزامَ الأمني للجزيرة العربية، وهمزة وصلٍ بين إفريقيا والجزيرة والخليج.
ووفقاً للإحصاءات، يمُـــرُّ في مضيق باب المندب حوالي 3،3 مليون برميل نفط يومياً، وهذا ببساطة يؤكّد مصلحة الدول الكبرى ودول الإقليم في أَهَميَّة السيطرة على هذا الشريان الدولي الذي تتدفَّقُ منه الطاقة لأهم وكُبرى الدول الصناعية الأوروبية، مما دفعها لممارسة دورٍ سياسيٍّ وأمنيٍّ وعسكريٍّ في الأرض الـيَـمَـنية، بفرْضِ تدخلٍ واضحٍ في أزمات البلاد وتوجيه مساراتها، تأجيجاً أو تجميداً، باتساقٍ مضطردٍ مع مصالح تلك الدول منفردةً أو متحالفة.
وهو الأمرُ المنعكسُ في الصراع الإقليمي داخل الـيَـمَـن والمتجلي في الحضور الإقليمي نيابةً عن الحضور الدولي، وبدلاً عن أن تكونَ جغرافيةُ الـيَـمَـن المميزة نعيماً لأهله، تحوَّلت إلَـى نقمةٍ عليهم، وصاروا ضحايا لصراعات تلك الدول فيما بينها على النفوذ العالمي.
غيابُ مشروع الدولة المستقلة
ومن خلال عملِ ديالكتيك للمرحلة التأريخية منذ تأسيس الدولة الـيَـمَـنية في العصر الحديث، نلاحظ أن كُلَّ الحكومات المتعاقبة، عجزت عن تكوين نظامٍ سياسيٍّ وطنيٍّ مستقل، مترافقٍ مع تحقيق تنميةٍ حقيقيةٍ، وجاء هذا العجز نتاجاً لسوء الإدارة السياسية في الـيَـمَـن خلال المراحل الماضية والسنوات الأخيرة خصوصاً؛ كونها عملت على تعطيل أو تغييب متعمد للجغرافيا السياسية؛ نظراً للارتهان المطلق للخارج، عِلْماً أن الجغرافيا السياسية تعد أحدَ أهم الركائز لبناء نظامٍ سياسيٍّ بمصادر قوةٍ متعددةٍ، تمكّنه من الحضور داخلياً وخارجياً. وذلك بتوظيف ما تتميَّزُ به الـيَـمَـنُ عن سائر دول المنطقة خُصُوْصاً ودول العالم عموماً، في توفُّر عنصرَي معادلة صناعة الدولة القوية المتمثلة بالموقع الجيواستراتيجي الهام والثروات الهائلة.
المطامع الأمريكية
رُبَّـمَا لا يدركُ البعضُ أن معركةَ السيطرة على الدول التي تمتلكُ موقعاً جغرافياً مهماً كالـيَـمَـن وفرْض الهيمنة عليها، يأتي في سياقِ مَدّ جغرافية الحضور للدول الاستعمارية لتضييق الخناق على مصالح دولٍ استعماريةٍ أخرى تتصارع معها.
ولأن أمريكا تعتبر من دول العالم الجديد، ومراكز الثروة تكمُنُ في العالم القديم، كان على أمريكا إيجادُ طريقةٍ لحلِّ هذه المشكلة الكامنة في موقعها الجغرافي البعيدِ عن مواطن تلك الثروات، فلم تجد حلاً غيرَ سيطرتها وفرض هيمنتها على الدول المطلة على أهمِّ الطرق التجارية والمضايق الدولية لتتحكَّم بسَيْرِ عمليةِ نقل الطاقة والتجارة الدولية، وتمارِسُ من خلالها أقوى الضغوطات لإخضاع القوى العالمية التي تنازعها زعامة العالم.
فكانت الـيَـمَـنُ ضمن دائرة الاستهداف الأمريكي؛ كونها تتمتعُ بمواصفات الموقع الاستراتيجي الذي يمنح أمريكا امتيازات السيطرة على أهم مفاصل طرق التجارة الدولية ونقل الطاقة، مضافاً إليها مخزونَ الثروات الهائلة فيها، فتضمن بذلك أوراقَ الضغط على تجارة الصين الذاهبة إلَـى القارة الأفريقية والأوروبية وضمان قطع الطريق على خطوط نقل الطاقة الروسية التي تطمح روسيا لإنشائها من خلال الاستثمار في مجال الغاز والنفط في الـيَـمَـن وربطها بخط غاز المتوسط وتوصيله إلَـى أوروبا، أو تحويله إلَـى آسيا للدول التي لا يصلها خط “قوة سيبيريا”، كما تضمنُ بقاء دول أوروبا العظمى في دائرة التبعية لها، وبذلك تكون أمريكا صاحبة اليد العليا في التحكم بالمصير العالمي أمام أقوى الخصوم الدوليين.
وفي الوقت الذي أعلنت فيه القوى الثوريةُ في الـيَـمَـن تبنِّي مشروع التحرر من أيَّة وصايةٍ إقليميةٍ أو دوليةٍ، في سعيها لبناء الدولةٍ المستقلةٍ الحديثة ٍوالقوية، وتطهير البلاد من أدوات النفوذ الخارجي، الذين رهنوا البلاد للسيادة الأمريكية، أدركت أمريكا بأن هذه الثورةَ وهذا المشروع يستهدف وجودها ومصالحها، فلجأت إلَـى كُلِّ الحيل لاستمالة قيادة هذه الثورة واحتوائها كما فعلت في السابق مع قيادة ثورة فبراير الشبابية التي باع فيها قادتُها ضمائرَهم والثورة؛ من أجل الوصول إلَـى السلطة المطلقة الممنوحة والمعمدة أمريكياً، ولكن قيادةَ هذه الثورة رفضت أن تبيعَ حُلُمَ الشعب في الحرية والدولة القوية، مقابل أي ثمن، لذا وجدت أمريكا نفسَها أمام خيار إعادة الـيَـمَـن لبَيت الطاعة بالقوة العسكرية، فشنَّت عُـدْوَانها البربري بواسطة أذنابها وأدواتها في المنطقة، فأوعزت للنظام السعودي ومشيخات الخليج بإعلان الحرب على الـيَـمَـن واحتلالها عسكرياً حتى وصل الأمرُ بمشاركتها فعلياً في العمليات العسكرية، سواءٌ على الأرض أو بالضربات الجوية؛ لاستعادة نفوذها الذي هدَّدته هذه الثورة بالضياع. لهذا ينبغي على الجميع إدراك هذه الحقيقة، أن العُـدْوَانَ على الـيَـمَـن لم يكن من أجلِ شرعيةٍ أو كما تدّعيه دولُ العُـدْوَان في تبريراتها له، بل من أجل إبقاء هيمنتها على الـيَـمَـن كي تمتصَّ ثرواتها وتستغلَّ موقعَها الاستراتيجي خدمةً لمصالحها التي سيقضي عليها مشروع الدولة الـيَـمَـنية الحديثة المستقلة والقوية التي سعت القيادة الثورية لتحقيقيه؛ تلبيةً لطموحات وآمال الشعب في بناء هذه الدولة المنشودة.
بقلم/
حسين الجنيد