الزحف التهويدي يطال كل فلسطين المحتلة
منذ انتفاضة الأقصى، يواجه أهلنا في الداخل المحتل عام 1948 حملة إرهاب منظمة ضد وجودهم في فلسطين. لم تتوقف، منذ تلك الفترة، حملات تدمير القرى “غير المعترف بها” في النقب والجليل (قرية رمية)، لإقامة مستوطنات يهودية مكانها أو توسيعها، وترحيل أهلها؛ من أشهرها قرية العراقيب في النقب التي هدّمت بيوتها ثم خيمها أكثر من 120 مرة في السنوات الأخيرة. عوّضت المؤسسة الصهيونية عن الانسحاب من قطاع غزة، بتسريع مشاريع التهويد وتكثيفها في المناطق الفلسطينية، وارتكاب مجزرة شفا عمرو (آب 2005). أقيمت المستوطنات قرب البلدات الفلسطينية لخنقها ومنع توسعها الطبيعي، وفي داخل المدن مثل عكا ويافا لتغيير معالمها، وانتهكت حرمة المقابر الفلسطينية (المسيحية والإسلامية) في حيفا ويافا وقرى الجليل، وتوسّعت الغابات على حساب الأراضي الفلسطينية في عدة مناطق من الجليل وجبل الكرمل والمثلث. شنّت قوات العدو حملة هدم للمنازل الفلسطينية، حتى وصل عدد المنازل المهددة بالهدم إلى عشرات الآلاف، بحجة عدم ترخصيها، في كافة أنحاء فلسطين، في المدن والبلدات، وكان آخرها في كفر قاسم الشهيدة. شُقّت الطرق التهويدية في المناطق الفلسطينية (المثلث) ومُدت سكك الحديد في قلب الأحياء العربية (عكا) واستولى المستوطنون على بيوتها، بطريقة “شرعية” (بدعم المؤسسة الصهيونية). لم يسلم أي مسجد من مساجدها من التدنيس، أو التدمير، أو التحويل الى أماكن لهو أو متحف (مسجد بئر السبع)، وأحرقت كنيسة تاريخية في منطقة طبريا، ودنست كنائس أخرى بكتابات عنصرية على أبوابها وفي داخلها. في الناصرة، يخشى الفلسطينيون الزحف التهويدي الذي يستولي على البيوت القديمة والدكاكين الصغيرة في أسواقها، لتحويلها إلى بؤر استيطانية، كما يفعل في مدينة القدس. في عكا ويافا، لم يبق في البلدتين القديمتين إلا بعض البيوت الشاهدة على تاريخ فلسطين، بفضل مناضلين وطنيين يحاولون كسب معركة الهوية، في صراع يتدخل فيه المموّلون الصهاينة وأعوانهم والمؤسسات الدولية، لصالح المحتل.
أصدرت المؤسسة الصهيونية في السنوات الأخيرة العشرات من القوانين التهويدية، تهدّد حياة الفلسطينيين في وطنهم، وتتدخل في مجالات حياتهم كافة، من تهويد أسماء القرى والبلدات في مناطقهم، إلى منع النطق باللغة العربية في بعض الأماكن، ومنعهم من السكن في مناطق من أرضهم المسلوبة، إلى إلغاء “المواطنة” والتهديد بطرد من “يهدّد” أمن الصهاينة من البلاد، كأنهم عمّال أو لاجئين أجانب وليسوا أصحاب البلاد الأصليين. تمنعهم هذه القوانين من دراسة تاريخ وطنهم وإحياء ذكرى النكبة والعودة إلى قراهم المهجّرة، كما تمنعهم من التكتل السياسي للدفاع عن هويتهم ومستقبلهم، فاعتبرت الحركة الإسلامية حركة غير شرعية، وتهدّد اليوم التجمع الوطني الديمقراطي. اعتقلت المؤسسة الأمنية الصهيونية قيادات أحزابها ومناضلين في أحزاب وجمعيات أهلية، وأقفلت مقرات جمعيات تعني بشؤون الأسرى وغيرها مهتمة بصون الهوية العربية الفلسطينية. وأخيراً، بدأت النقاشات بين الصهاينة حول وجود نواب فلسطينيين في الكنيست الصهيوني، في محاولة لاستفزازهم وجعلهم يرضخون لفكرة إقامة دولة “يهودية ديمقراطية”، وإزالة شرعيتهم، ما يعني أن اعتبار الكنيست الصهيوني منصة للصوت العربي داخل الكيان الصهيوني يواجه اليوم تساؤلات حقيقية.
شرّعت المؤسسة الصهيونية بناء مستوطنات على أنقاض القرى والبلدات الفلسطينية، وخنقها بالطرق السريعة والسكك الحديدية والغابات التلمودية، وطالبت انخراط الشباب الفلسطيني، لا سيما المسيحي، في مؤسساتها الأمنية المعادية بهدف إثارة فتنة بين أبناء فلسطين. طاردت المناضلين وزجتهم في سجونها، واستدعت غيرهم عندما احتجوا ونددوا بالمجازر في غزة وبتهويد القدس وتضامنوا مع معارك الأسرى. مُنع العديد منهم من التواجد في القدس وفي المسجد الأقصى، واعتقل العشرات منهم بسبب كتاباتهم على صفحات التواصل الاجتماعي وتواصلهم الحضاري مع العالم العربي. وعند كل مفصل من الحياة السياسية داخل الكيان المحتل، تصدر أصوات تطالب بطردهم ومنعهم من المشاركة في الحياة السياسية في الكيان، بحجة عدم ولاءهم للصهيونية.
تشارك كافة المؤسسات الصهيونية، من الصحافة إلى المدارس، مروراً بشركات الكهرباء والهاتف والمياه، والتأمين الصحي والمستشفيات، في إشاعة أجواء معادية للفلسطينيين، رغم اعتبارهم “مواطنين”. يعاني أطفال النقب من استحالة الذهاب إلى المدارس ومن التسرب؛ وفي الإدارات الرسمية، لم يوظّف الفلسطيني إلا بنسبة متدنية، كما يقول مدير مؤسسة ميزان لحقوق الإنسان في الناصرة، المحامي مصطفى سهيل محاميد: “نسبة الفلسطينيين 20%، ونسبة العاملين كموظفين في الشركات المملوكة للدولة لا تتعدى 3%، وفي التعليم والبنى التحتية، الميزانيات التي ترصد للمدن والتجمعات الإسرائيلية تفوق بأضعاف ما يرصد للوسط العربي”. انتشرت الأعمال العدائية إزاء فلسطيني 48 من وتوسّعت قبل المستوطنين، ولم تقف عند ممارسات مؤسساتهم؛ كما شهدت المدن الفلسطينية (الناصرة، أم الفحم، عكا) مظاهرات للمستوطنين المطالبين بتهويد هذه المدن، وهجومهم على المشاركين في وقفات داعمة للأسرى قبل سنوات.
تدلّ هذه الاعتداءات المتنامية والمتكررة إزاء فلسطينيي 48 أن العدو الصهيوني لا يضع خطاً أخضر ولا أحمر، في تعامله مع الشعب الفلسطيني. يعتبر أن كل فلسطين له، وعلى الفلسطينيين الرحيل. في الكيان المحتل عام 1948 وفي الضفة الغربية والقدس، مشاريع التهويد سارية ومتوسّعة، ومساعي طرد الفلسطينيين تشمل الأراضي المحتلة عامي 1948 و1967، على حد سواء. والتغلغل الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس وتشريعات عملية التهويد المتسارعة اليوم تكرّر ما حصل في الأراضي المحتلة عام 1948 وبعدها، والعملية مستمرة إلى الآن.
يواجه الشعب الفلسطيني عدواناً متكاملاً، منذ وعد بلفور واتفاق سايس بيكو إلى اليوم، لم يجزّئ أرض فلسطين، بل جزأ شعبها ليتمكن منه، وجزّأ القضية الواحدة إلى ملفات: القدس ومحيط القدس، المسجد الأقصى، المقدسات، اللاجئين، قطاع غزة، مناطق (أ، ب وج)، مدينة الخليل، النقب، العرب، البدو، الدروز، مستوطنات الضفة، المعابر، الأغوار، الأسرى والشهداء، وجميعها لا تدلّ إلا على أن كيان العدو يسعى لاستفراد بعض القيادات وإلهائها في متاهات. يقدم لها فتات من هنا ليأخذ كميات من هناك، وتتوهم هذه القيادات بأنها تحرز تقدّماً في ملفات هامشية (كالاعتراف بـ”الدولة” من قبل بعض المؤسسات الدولية و”انتصارات” في اليونسكو) وتحاول بيع أوهامها للشعب الصابر والعنيد، “شعب الشهداء” كما وصفه نائب الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي مؤخراً، في حين أن طريق التحرير والحرية يتطلب إعادة توحيد الشعب الفلسطيني، من البحر إلى النهر واللاجئون بينهم، وتوحيد الأرض والقضية في ملف واحد، وبلورة استراتيجية التحرير. في هذا المجال، علينا التخلص من ضغط “الشرعية الدولية” التي تعمل لتجزئة الأرض والشعب والقضية، والتخلص من أوهام الحلول المرحلية.